
في زحام مشرحة زينهم في مصر لم يكن الصمت وحده سيد الموقف، بل الحزن الثقيل. جلس والدا المهندس أحمد مصطفى في ركن جانبي، أمه تبكي بحرقة، وأبوه يحدق في الأرض بلا كلام، بينما كانت الجدة تحتضن صورته وتردد: "كان عريساً وخطوبته الجمعة الجاية يا ناس!".
الضحية أحمد الذي لم يتجاوز 28 عاما، لفظ أنفاسه الأخيرة داخل سنترال رمسيس، مختنقا بالدخان وسط النيران التي اشتعلت فجأة في المبنى المكون من عشرة طوابق. لم يكن مجرد موظف تقني، بل الابن البكر، وسند الأسرة، والشاب الذي طالما حلم ببيت وزوجة، ولم يكتب له أن يرى أيا منهما. كان أحمد قد تقدم مؤخرا بطلب نقل من الشركة المصرية للاتصالات إلى شركة الكهرباء في محاولة لتحسين وضعه المعيشي، وبدأ تجهيز شقة الزوجية، وقبل أيام فقط اشترى بدلته لخِطبته المنتظرة. لكن أحلامه احترقت قبل أن تزف له الزغاريد.
وفي مشهد إنساني آخر لا يقل وجعا، ودّع المهندس مدحت عبد العزيز صديقه أحمد رجب بيومي، الذي لقي حتفه أيضا في الحريق، بكلمات مؤثرة على "فيسبوك": "أحمد توفي وهو بيصلي... مش مصدق نفسي إني بكتب رثاء صاحبي اللي كان سندي في كل حاجة... كان قلبه طيب وعمره ما زعل حد... هتوحشني أوي يا صاحبي وربنا يصبرنا على فراقك".
ورغم أن الحريق استغرق دقائق معدودة، فإن الخسائر لا تُحصى: شباب في مقتبل العمر، أمهات ينتظرن مكالمة لم تأت، وعائلات ما زالت حتى اللحظة تبحث عن تفسير... أو عزاء.
محاكم بلا متهمين وقرارات بلا حضور في مصر
وإلى جانب الفقد الإنساني، انكشف وجه آخر للمأساة، وهو الانهيار المؤسسي. تسبب الحريق في تعطل شبه كامل لشبكات الربط الرقمية التي تعتمد عليها أجهزة الدولة، خاصة في القطاعات القضائية والأمنية. ففي سابقة لم تشهدها مصر من قبل، تعطلت جلسات التجديد في نيابات أمن الدولة ودوائر الإرهاب على مستوى الجمهورية، بسبب توقف خدمة "الفيديو كونفرانس" التي تربط المحاكم بأماكن الاحتجاز.
وقالت مصادر قضائية لـ"العربي الجديد"، إن جلسات الثلاثاء أُجريت بشكل روتيني، ومن دون حضور المتهمين، بسبب انقطاع الاتصال، وهو ما أثار جدلاً قانونيًا بشأن مدى مشروعية تلك القرارات. وأضاف أحد أعضاء النيابة العامة: "جرى تجديد الحبس لعدد من المتهمين دون أن تُجرى معهم التحقيقات المقررة... إذا استمر الانقطاع، فسيكون هناك إشكال قانوني حقيقي أمام المحاكم". كما امتد التأثير إلى مكاتب التوثيق والشهر العقاري والمحاكم الاقتصادية، والتي عجزت عن تقديم أبسط خدماتها، مما تسبب في طوابير غاضبة وخدمات معلقة وعشرات المعاملات المؤجلة.
ولم تكن وزارة الداخلية بمنأى عن الأزمة، إذ تأثرت خدمات النجدة والطوارئ، وشهد الخط الساخن 122 انقطاعات متكررة، مما أدى إلى تأخر الاستجابة للبلاغات، واضطر مواطنون للتوجه بأنفسهم إلى أقسام الشرطة بعد تعذر التواصل هاتفيا أو إلكترونيا.
منصة السخرية
على الضفة الأخرى، لم يتأخر رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن التعليق، بطريقتهم الخاصة. جاءت السخرية لاذعة، ومشحونة بالغضب. تداول المستخدمون مواقف طريفة ومريرة، أبرزها حالات تعثر الدفع في المطاعم بسبب توقف تطبيق "إنستاباي"، وكتب أحدهم: "المطعم شكله هيخليني أغسل الصحون... مفيش كاش وإنستاباي نايم".
وتحول الحريق إلى مناسبة لتفكيك السردية الرسمية عن "إنجازات البنية التحتية" خلال السنوات الماضية. وكتب الروائي أحمد فرحات: "الخوف مش من اللي جاي... الخوف من اللي بعد كده. إحنا رايحين نعمل مفاعل نووي في الضبعة، وطفاية الحريق هنا مش شغالة؟ دي كوميديا سوداء تنفع رواية". ولم يغب وزير النقل كامل الوزير – المُحاط أصلًا بانتقادات بعد حادث المنوفية – عن المشهد، وكتب أحد المستخدمين: "خد كمان وزارة الاتصالات يا كامل...!". وتساءل آخرون عن إمكانية وجود نية مبيتة لتصفية مبنى السنترال، خاصة مع الحديث المتزايد عن تطوير وسط القاهرة، واستثمارات خليجية مرتقبة. وعلّقت مغردة: "هو في مستثمر خليجي عايز أرض السنترال ولا إيه؟".
ما بعد الحريق
وحتى الآن، لم تُعلن السلطات بشكل رسمي عن عدد دقيق للضحايا، ولا عن المسؤول المباشر عن غياب خطط الإخلاء أو إنذارات الحريق. كل ما وصل إلى المواطنين هو بيان يتحدث عن "ماس كهربائي" وتأكيدات من جهاز تنظيم الاتصالات على "تعويض العملاء".

Related News
