
يتواصل في روسيا منذ أيام عدّة الجدل حول فيلم وثائقي أنتجته قناة سباس الدينية المرتبطة بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ويتناول تاريخ ضريح زعيم ثورة البلاشفة فلاديمير لينين الكائن بالساحة الحمراء إلى جوار الكرملين، من خلال مقارنة تمجيده بالممارسات الوثنية في مصر القديمة وبلاد الرافدين.
وأثار "المومياء"، من إعداد وتقديم الإعلامي الروسي أندريه أفاناسييف، غضب الحزب الشيوعي الروسي إلى حدّ أنه طرح، خلال مؤتمره الـ19 المنعقد في ضواحي موسكو في الخامس من يوليو/ تموز الجاري، مقترح إدراج قناة سباس على قائمة "العملاء للخارج"، في حال ثبت تمويل الفيلم من مصادر أجنبية.
يُذكر أن "الشيوعي" يُعد ثاني أكبر قوة سياسية في البلاد بعد حزب روسيا الموحدة الحاكم، وتضم نواته الصلبة قطاعاً واسعاً من السكان المتمسّكين بزمن الاتحاد السوفييتي بأمجاده وعظمته، ولذلك يرفضون المساس بشخصية لينين.
يرصد الفيلم، الذي جرى تصوير قسم من مشاهده في مصر والعراق، ما اعتبره معدّوه مظاهر وثنية لتمجيد لينين، على غرار مصر الفرعونية وبلاد الرافدين. وأثناء جولته في محيط الأهرامات المصرية، يتوقف مقدّم الفيلم عند التشابه بين هيكل ضريح لينين وهرم زوسر المدرّج في منطقة سقارة، الذي يعود بناؤه إلى عهد الأسرة الثالثة في المملكة القديمة.
كما يتضمّن الفيلم تفاصيل مثيرة حول عملية تحنيط جثمان لينين، مع شهادات لخبراء ومؤرخين يوجّه معظمهم انتقادات لدور لينين في التاريخ الروسي، ويستنكرون إبقاء "المومياء" في ضريح وسط موسكو، بالإضافة إلى توثيق أبرز محاولات الاعتداء على التابوت الزجاجي المُودَع به الجثمان، بما يكاد يصل إلى الإشادة ببعض منفذيها.
ويشير كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية أندريه أندرييف إلى أنّ فيلم "المومياء" أعاد إلى الواجهة الجدل الدائر منذ عقود طويلة حول مصير ضريح لينين، وهو جدل يعكس انقسام المجتمع الروسي حيال الماضي السوفييتي، داعياً إلى ترك هذه المسألة لحكم الزمن.
ويرى أندرييف، الذي سبق أن عمل باحثاً في معهد الماركسية اللينينية خلال الحقبة السوفييتية المتأخرة، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنّ "هذا الجدل ليس طارئاً، بل هو مستمر منذ عقود، ويعكس انقساماً أيديولوجياً تتراجع حدّته تارة وتزداد تارة أخرى بين محبّي الاتحاد السوفييتي ولينين ومعارضيهما. لكنني أعتقد أن الوقت قد حان للتركيز على تحدّيات العصر، بدلاً من تركة الماضي".
وعن تقييمه لدور لينين في التاريخ الروسي، يُضيف: "لا ينبغي تمجيد لينين أو تصويره باعتباره (الجد الطيّب والحنون)، كما كان يتم تقديمه في الحقبة السوفييتية، بل يجب الإقرار بأنه من أبرز الشخصيات التاريخية، حتى وإن أصدر أوامر إجرامية، شأنه في ذلك شأن كثيرين غيره. وقد آن الأوان للكفّ عن النظر إلى التاريخ بالأبيض والأسود فقط، فالأمور أعقد من ذلك"، ويخلص إلى أنّ "القرارات التاريخية وحدود المقبول والمرفوض لا يمكن قياسها بموازين صيدلة دقيقة"، على حد تعبيره.
وبين حين وآخر، يثير مصير ضريح لينين انقسامات أيديولوجية في المجتمع الروسي، بين من يرى ضرورة دفن جثمانه، وآخرين يُصرّون على بقائه في ضريحه بأهم ساحة في البلاد، دون أن تحسم السلطات الروسية موقفها النهائي من القضية، في ظل تمسّك الحزب الشيوعي بمكانة "الزعيم" في تاريخ روسيا وتأسيس الاتحاد السوفييتي.
في المقابل، تسعى غالبية الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى طيّ صفحة اللينينية وإزالة تماثيله. ومن آخر هذه المحاولات، تفكيك واحد من أعلى تماثيل لينين في مدينة أوش القرغيزية في يونيو/ حزيران الماضي. أما أوكرانيا، فأزالت في بداية عام 2021 آخر تمثال للينين في مقاطعة أوديسا المطلة على البحر الأسود، في إطار برنامج "نزع الشيوعية" الذي تنتهجه السلطات الموالية للغرب منذ عام 2014. وبذلك تبقى روسيا وحليفتها بيلاروسيا وحدهما تزخران بتماثيل لينين في الساحات الكبرى لمدنهما.
يُذكر أنّ لينين (1870–1924)، هو أبرز قادة حركة التمرّد التي أسفرت عام 1917 عن إقامة سلطة السوفييت وسيطرة البلاشفة على مقاليد الحكم. وقد أسّس البلاشفة نوعاً جديداً من الدولة كانت تهدف إلى تحقيق "ثورة اشتراكية عالمية"، مستندة إلى أيديولوجيا ترفض إمكانية إصلاح الرأسمالية. وفي عام 1922، اعتزل لينين الحياة السياسية النشطة بعد إصابته وتدهور حالته الصحية إثر محاولة اغتيال نفذتها امرأة تُدعى روزا كابلان، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في استراحته بضواحي موسكو عام 1924.

Related News
