
لا يستطيع الوقت أن يبتذل الأشياء العظيمة، ففي داخلها عوامل بقاء، تأتي من صدقها ومن إدراكها العميق للواقع، الكواكبي وكتابه الخالد "طبائع الاستبداد" واحد من هذه الأشياء:
أول ما يصدم قارئ كتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، عند التعمّق فيه، الغربة، غربة كاتبه الأولى عن أقرانه (من أبناء فترة السلطان عبد الحميد الثاني) الذين استشعروا قرب انهيار الخلافة، وشرعوا في محاولات الإصلاح والإرشاد علّ الخلافة تصلح نفسها، الخلافة التي بدا واضحاً أن الكواكبي تجاوزها تماماً، ليس فقط خلافة بني عثمان، بل فكرة الخلافة نفسها، والتي انتهت عنده بمقتل الخليفة الرابع.
حتى الخلافة الراشدة لم يجد حرجاً من شطرها إلى نصفين، الأول كان منتهى العدل والحكم الرشيد وانتهى بمقتل الخليفة الثاني (على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمدي لم يخلفه فيه حقا سوى أبو بكر وعمر ثم أخذ بالتناقص، وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان والى الآن).
الغربة الثانية والكبرى كانت عن عالم نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات العشرين، وهي فترة بدا فيها قترب نهاية الإمبراطوريات القديمة، والتي حكمت شعوباً متنوعة، ومنها حتماً الخلافة العثمانية، لصالح الدول ذات الشكل القومي، مع بداية صعود المد القومي المطعم بروائح فاشية عنصرية أحياناً.
أنسنة بلا حدود
تجاوز الكواكبي الجغرافية التي ينتمي إليها وحتى التاريخ، في عالم تمجد فيه روح القوة، ولا سيما العسكرية، ويضمحل دور الفرد في سبيل بناء الدولة القوية المهابة من الداخل والخارج، نموذجاً للأمم العظيمة. وهو أمر سما عنه العلامة الموسوعي عالياً، بفكر أعلى شأن الإنسان الفرد، وجعل من سوية معيشة الأفراد مقياس نجاح وقوة الدولة، وليس العكس. فكر لم يجد غضاضة في مقارنة عدالة عمر بن الخطاب بأنوشروان العادل، أحد أكاسرة الفرس الزرادشتيين.
مفهوم المواطنة، وحبّ الحياة، يبدو واضحاً جلياً في كل سطر في الكتاب، حبّ الحياة عنده يعني الحياة بكل تفاصيلها المادية والروحية؛ رفض الفقر والجهل، لكن تبقى الحرية ورفض الاستبداد عنده أسمى ضرورات الحياة، وهي الوحيدة كقيمة معنوية جديرة بالدفاع عنها، وحتى الموت لأجلها، وليس النظريات الأيديولوجية عن حب الأوطان المأسورة، سواء بحاكم مستبد أو محتل يسرق خيرات البلد.
حديثه عن التآخي بين البشر والشعوب ورفض الظلم، وذلك بغض النظر عن دين الظالم وجنسيته، يشعرك بأنك تقرأ، وأنت في القرن الحادي والعشرين، فكراً من المستقبل؛ فحتى حين يعلن رفضه الاستعمار لا يستخدم الكواكبي الكليشهات الوطنية أو حتى الدينية، بل وجوب الوقوف في وجهه من باب سرقة الموارد وظلم البشر. بل إنه يطالب الأخ الغربي بوجوب الوقوف مع أخيه الشرقي، كي يسيرا معاً لتحسين معيشة الإنسان!
النموذج الأفضل عند الكواكبي هو الديمقراطية الغربية، وإن اهتدى بنظام الشورى الإسلامي، وهنا نجد ابتعاداً جديراً بالاهتمام عن النكوص لأحلام ماضوية كعودة لخلافة رشيدة بأدوات الماضي، أو بعث أمة من كتب التاريخ. حديثه كله عن المستقبل، وأدواته نشر الحريات والديمقراطية والعلم للجميع بغية إسعاد الناس؛ إسعادهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
التجنيد والعسكرة
لعلّ من أكثر أفكاره جرأة رفضه التجنيد الإجباري، فهو، برأيه، أقوى أدوات المستبد في تثبيت حكمه، إضافة إلى جهل العوام بحقوقهم، والجرأة هنا أن التجنيد كان شائعاً في الدول المتمدنة وقتها، وهي أقرب أشكال الحكم إلى الرشاد عند الكواكبي (وقد تخلصت الأمم المتمدنة نوعا ما من الجهالة، لكنها بليت بشدة الجندية الجبرية العمومية، تلك الشدة التي جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة، وألصقت عارا بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد).
وقد بدأت مناقشة رفض التجنيد بعد ما يزيد على قرن وربع في الدول الاسكندنافية، تحت عنوان "من حقي ألا أكون قاتلا"، لا كتخفيف للنفقات أو بناء جيش احترافي كما يحدث الآن في الغرب، بل حق إنساني شخصي أصيل لمح له الكواكبي، وهو ما بات يدعى اليوم المقاومة الأخلاقية للتجنيد.
في الدين والسياسة
فهم الكواكبي للسياسة والدين أمر شديد التعقيد، فهو من جهة رجل الدين المعمّم، ومن جهة الثائر على الظلم والاستبداد، ومن جهة المنفتح على الثقافات المتمدنة الحديثة. إنه يتفق مع الرأي "ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع فيه الدين، أي تشدد فيه، إلا وأختل نظام دنياه وعقابه". وهنا يستشهد بأن الشعوب السكسونية التي تدين بالبروتستانتية كالمملكة المتحدة، أثر تحرّرها الديني في الإصلاح السياسي.
وحين يناقش تداخل الإسلام والسياسة، ينطلق من أن وحدانية الله في الإسلام، ورفض الشرك، هو أحد أهم أسلحة المسلمين في محاربة الاستبداد، فالله واحد لا شريك له، وبقية البشر سواسية، وهنا لا ينكر تواطؤ كهنة السلطان في تسويغ الاستبداد والظلم بل يضعهم في سويّة مع المستبد من حيث الفساد؛ فساد الرأي وفساد المال الحرام، فكل أموالهم المكدّسة حرام من قوت الشعب الجاهل الأسير.
وفي موضوع الحاكمية، والمقصود ليس فقط كيفية اختيار الحاكم وشكل السلطة، بل أيضا تشريع القوانين ومن يقوم على تطبيقها، نجد أن الكواكبي يجهد بإبعاد الدين (الحنيف) عن مزالق الاستبداد، فهو حين يعود إلى صدر الإسلام، يشير إلى شكل من الديمقراطية يدعوها: الشورى الأرستقراطية، أي شورى أهل الحل والعقد، مع جلي البيان أنها من أشكال الديمقراطية، وأصول الحرية، وليست الشكل الوحيد الأمثل، بل إنه يطنب ويكثر مديح الديمقراطية الغربية ذات المجالس العمومية المنتخبة من الشعب، المؤطرة بشرائع بشرية نافذة محكمة.
وإذ يكثر في الكتاب استخدام مصطلح الشريعة، نجد يقيناً أن الشريعة التي يقصدها هي الشريعة الوضعية، والتي يسنها من انتخبتهم الشعوب، كالدساتير مثلاً، والتي وجدت لتقيّد حركة الحاكم وصلاحياته.
توضح القراءة السابقة أن هناك الكثير من شغل الكواكبي جرى تجاهله والتعمية عليه. ولا بد دائماً من محاولة غوص غير تقليدية، وإعادة قراءة جديدة، تليق به، خارج رتابة التنويريين الجدد، والعبارات الجاهزة التي تم تحفيظنا إياها. فالكتاب من عنوانه يجهد لشرح الاستبداد ومساوئه وكيفية التخلص منه، لكنه بين دفتيه يفيض إنسانية ومحبّة وثقافة عالمية رفيعة.

Related News


