بين الحقيقة والوهم... غرام السوريين بالوحدة
Arab
5 days ago
share

يُعدُّ التحول من العلاقات الغريزية للجماعات البشرية نحو إعادة صياغة علاقة الفرد بالجماعة على أساس احترام الخصوصية الفردية مسيرة طويلة في علم الاجتماع البشري، وقد تختصر سيرورة التطور الحضاري لشعبٍ معيّن برمتها. وخلال هذه المسيرة الطويلة من التنظيم المجتمعي، جرى إطلاق طاقة الأفراد بالتدريج ليتمكنوا من الإبداع والعمل في مناخات متزايدة من الحرية، فتعود ابتكاراتهم، التي هي أعمال فردية بطبيعتها، بالفائدة على الجماعة بأسرها، ووصل الأمر إلى مرحلة متقدمة في الدول الحديثة التي وضعت الفرد في مركز اهتمامها وعنايتها، وليس العكس. 
مما سبق، يمكن القول إن الوحدة المجتمعية ما قبل الدولة الحديثة (الديمقراطية) ليست إلا ضرباً من استلاب الفرد لمصلحة الجماعة، ومن استلاب الجماعات القوية للجماعات الضعيفة، والجماعات الكبيرة للصغيرة. وكانت تلك مراحل لا بد منها من التنظيمات الاجتماعية لمواجهة أخطار الطبيعة وكائناتها. والسلطة القائمة على رأس جماعة في هذه الحالة هي سلطة إكراه بالضرورة، وتعمل لمصلحة الجماعة لا الفرد، فتقوم بضبط مختلف التناقضات داخل الجماعة من أجل حمايتها، وهو شرط أساس لفوزها بالسيادة، والطريقة السهلة للتحكم بالمجتمعات البشرية. وتمت إحاطة هذه الرؤية بغلالةٍ من التقديس، وتبجيل السلطة العليا، بدءاً من سلطة الأب في البيت، وحتى سلطة الملك في القصر، واعتبار إنكار الذات لصالح الجماعة قيمة أخلاقية ودينية عليا، والتضحية في سبيلها شرفاً عظيماً، تقام لأصحابها الأنصاب التذكارية، وتؤلف لهم الأغاني.

مع أفول المشاعر العروبية، نظراً لتغلب الحقائق على الأوهام، تحول السوريون، المصابون بعصاب الوحدة، إلى التمسك بالوحدة الداخلية

وقد مضت آلاف السنين قبل تتبلور مثل هذه السلطة سلطةً أبوية نموذجية ما زلنا نعيش في بقاياها، حيث يخضع الأفراد إلى تراتبية متصاعدة من رموز الأبوية، بدءاً من الأب البيولوجي المباشر، إلى ترميزه الأقرب كشيخ عشيرة أو قبيلة، وإلى ملك عضوض في مرحلة تالية، ثم إلى حالة أكثر تجريداً تتمثل بدكتاتور سياسي تُضاف إليه صفة الأب القائد لمزيد من التأصيل والتذكير بهذه الرابطة أو العلاقة. ومع ذلك، لم تكف هذه السيرورة الأرضية لضمان استقرار المنظومة، ورافقتها رحلة في الخيال أيضاً، فكانت ثنائيتا الخيال والواقع، السماء والأرض، ضروريتين لدعم الوعي البشري الحائر في تفسير العالم، والباحث عن سبل الحد من قلقه الوجودي إزاءه.
وإذا نظرنا إلى واقع سورية الحالية من خلال المقاربة النظرية السابقة، نجد أنها، وبعدما خطت بقوة نحو الحداثة والتخلص من إرث سلطاني مديد بعد الحرب العالمية الأولى، عادت وتقهقرت في النصف الثاني من القرن العشرين إلى حكم استبدادي أبوي اتخذ في المرحلة الأخيرة طابعاً سلطانياً من جديد. فقد كانت سورية مركزاً رئيساً لحركة القومية العربية التي لم تستطع أن تحول حلم الوحدة العربية إلى واقع اقتصادي – اجتماعي في أي تجربة خاضتها، وكان الفشل مدوياً وخيبات الأمل مريرة، الأمر الذي لم يخفف من التوق إلى إعادة الكَرَّة أكثر من مرة من دون تحقيق أي تقدم يُذكر. وقد صارت المشاعر، ببساطة، بديلاً عن الفشل على أرض الواقع، وصار الشعار بديلاً للفعل، واحتاج الشعار للتكرار بطريقة مفرطة، ومن دون توقف، لأنه التعويض الوحيد عن استحالة التحقق.
ومع أفول المشاعر العروبية، نظراً لتغلب الحقائق على الأوهام، تحول السوريون، المصابون بعصاب الوحدة، أخيراً إلى التمسك بالوحدة الداخلية بصورتها المطلقة، ومناهضة أي محاولة لإظهار ألوان التنوع الثقافي ضمن إطار وحدة اختيارية لا تتعارض معه. تكمن خطورة مثل هذا الطرح في تحول التباينات الاجتماعية إلى نقمة، عوضاً عن أن تكون سمة الطابع الحضاري المتنوع لسورية. ووصل الأمر إلى محاولة تقليد نماذج تاريخية في ظروف مختلفة، إمعاناً في الشرود التاريخي والانفصام عن الواقع، حتى دون أي جهد معرفي لفهم تلك النماذج التاريخية، ومعرفة ظروفها وآلياتها ومآلاتها. وهذه المعرفة التي لا يصح تمثّل أو استحضار أي تجربة تاريخية من دون دراستها بشكل معمق واستخلاص الدروس منها. كما صارت كل دعوة إلى اقتراح صيغ من الحوكمة التي تحترم التنوّع السوري ضرباً من التخوين. ولا فرق بين النخب وجماهيرها في هذه الحالة، فثمة تقاسم للأدوار بين خطيب وناشط يحرضان وجماهير تردد شعارات ماضوية اجتاحتها وأسكرتها، مدمّرة كل عقلانية في طريقها كسيل عكر. وصار أي حديث عن أبسط أشكال الإدارة، كالمركزية واللامركزية، يصيب بعضهم بالصدمة، مخافة أن يهتز هرم الأبوية الكامن في وعيهم أو لاوعيهم، ولا مشكلة لدى هؤلاء إن بُنيت الوحدة المتوهَّمة على تلال من الضحايا، فوعيهم لم يتجاوز مرحلة المراهقة التاريخية المليئة بالعبث والجنوح وعدم الاستفادة من التجارب المحلية والعالمية.

صارت كل دعوة إلى اقتراح صيغ من الحوكمة التي تحترم التنوع السوري ضرباً من التخوين

لقد تعوّد أبناء الشعوب التي لم تنضج تاريخياً بعدُ، وجل السوريين منهم، أن ينظروا نحو السماء وهم يمشون على الأرض، ويعيشوا في عالم ترسمه مخيلتهم فيما يعيشون واقعاً مختلفاً تماماً، فمن الطبيعي أن يتعثروا ويسقطوا من وقت إلى آخر، وألا يستفيدوا من أخطائهم. فهم موحّدون فقط في ميثولوجيا جمعتهم، ويظنون أنها يمكن أن تنقذهم وتوحدهم بخلاف الواقع، حيث فشلنا، حتى الآن، ببناء دولة المواطنة والقانون. 
في هذه الأثناء، تزداد الشروخ عمقاً بين السوريين، من حيث يمكن أن يتسرَّب (أو يُمرَّر) المستبدون واحداً بعد آخر، في سباق للفوز بالسلطة وممارسة الإكراه، وبوجود عقائد تفرِّق وغياب برامج تعزز المصالح وتتنافس على تأمين الاحتياجات الحيوية والرفاه المادي والمعنوي للشعب. كما أن استمرار معالجة الأمور بهذه الطريقة قد يفضي إلى إطلاق رصاصة الرحمة على سورية، بقعة مميزة على هذه الأرض، عرقياً واجتماعياً وثقافياً، وحتى بيئياً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows