"العربي الجديد" يجول في الخرطوم: خراب يحكي أهوال الحرب
Arab
5 days ago
share

بعد تحرير الجيش السوداني كامل ولاية الخرطوم من قبضة مليشيا الدعم السريع، قبل أكثر من ثلاثة أشهر، تمكن المسؤولون والمواطنون من الوصول إلى المناطق التي تعذر الوصول إليها طوال العامين الماضيين من الحرب، بسبب سيطرة "الدعم" على تلك المناطق واحتدام المعارك داخلها. وكشف خروج العاصمة من دائرة الحرب المتواصلة منذ 15 إبريل/ نيسان 2023 عن دمار كبير لحق فيها، خصوصاً في منطقة وسط العاصمة الخرطوم، حيث تقع أبرز المقار العسكرية والسياسية، مثل القيادة العامة للجيش والقصر الرئاسي والوزارات والمؤسسات السيادية، إلى جانب الفروع الرئيسية للمصارف ووسائل الإعلام والشركات العامة. وخسرت "الدعم السريع" وجودها في ولاية الخرطوم، بعد أن ظلّت متمركزة فيها منذ بداية الحرب، وذلك بعد عملية عسكرية متعددة الاتجاهات شنها الجيش السوداني والقوات المساندة له في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي لطردها من مدن الولاية الثلاث: الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان. وتمكن الجيش، بحلول 26 مارس/آذار الماضي، من إخراجها، إذ اضطرت إلى الانسحاب عبر جسر خزان جبل أولياء، أقصى جنوب الخرطوم، متوجهة غرباً نحو مدينة أم درمان، ثم مغادرة كامل الولاية.

دمار واسع

في جولة لـ"العربي الجديد" في عدد من أحياء الخرطوم، يُلاحظ تعرض المدينة إلى تدمير واسع نتيجة المعارك في جميع أرجائها، وتحوُّل وجه المدينة إلى اللونين الأسود والرمادي بفعل الحرائق، وبقايا المباني والمنازل المدمرة. وتظهر بصورة واضحة آلاف السيارات الملقاة على جنبات الطرق، مقلوبة ومفككة، والكثير منها يكسوها الرماد. وبينما تتزايد حركة المواطنين والسيارات في المناطق الطرفية، يبدو وسط الخرطوم مدينة أشباح، حيث تكاد الحركة تنعدم، إلا من بعض السيارات العسكرية، ورجال الشرطة الذين عادوا إلى حراسة المؤسسات الحكومية، وبعض المواطنين الذين يتفقدون متاجرهم ومنازلهم.

عند مداخل ومخارج العاصمة، والطرق الرئيسية والتقاطعات الكبيرة، تنتشر نقاط التفتيش التي نصبها الجيش، إلى جانب نقاط أخرى تديرها الشرطة. وفي منطقة جبل أولياء، أقصى جنوب الخرطوم، وهي البوابة التي غادرت عبرها آخر مجموعات "الدعم السريع"، تكشف جولة "العربي الجديد" عن دمار كبير في المنطقة، حيث السيارات والمنازل المدمرة والمحترقة، بجانب عدد كبير من المركبات العسكرية المقلوبة، وشاحنات الوقود المحترقة، بفعل الجيش السوداني عند محاولة "الدعم السريع" إخراجها عبر جسر خزان جبل أولياء، الذي يربط بين مدينتي الخرطوم وأم درمان. وفي مقر قوات الاحتياط المركزي التابعة لوزارة الداخلية جنوب الخرطوم، تظهر آثار دمار هائل على المبنى ذي المساحة الواسعة، والذي يضم مباني بطوابق متعددة، وملاعب ومساحات تدريب ومستشفى، وما تزال السيارات المدرعة ملقاة أمام بوابات الموقع. كذلك يظهر تهدم أجزاء كبيرة من جدران المبنى، وثقوب ضخمة ناتجة عن الأسلحة الثقيلة التي استخدمت خلال هجوم "الدعم السريع" على الموقع، قبل سيطرتها عليه في يونيو/ حزيران 2023 عقب مواجهات استمرت لأيام.

وعند الوصول إلى مقر سلاح المدرعات وسط الخرطوم، تبدأ آثار الحريق في الظهور على الأحياء السكنية التي يتوسطها المقر، والذي شهد أعنف المعارك منذ بداية الحرب، إذ شنّت "الدعم السريع" مئات الهجمات للسيطرة على أحد أكثر المواقع العسكرية تحصيناً في الخرطوم. فشلت المليشيات رغم كل ذلك في السيطرة عليه، إذ يضم المقر ذو المساحة الواسعة، والذي يتوسط خمسة أحياء سكنية، سراديب تحت الأرض، وتحصينات لحماية الدبابات والمركبات المدرعة، وهو قريب من حي جبرة، الذي كان يضم أحد منازل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي". وفي منطقة السوق العربي، أشهر أسواق البلاد وسط الخرطوم، الذي يقع غرب مقر القيادة العامة للجيش، تظهر آثار المعارك العنيفة التي دارت منذ اليوم الأول للحرب. وإلى الشمال، على بعد شارعين من السوق، يقع القصر الرئاسي المعروف باسم القصر الجمهوري، والذي تمكن الجيش السوداني من استعادته من قبضة "الدعم السريع" في 21 مارس الماضي.

في الشوارع حول القصر والقيادة العامة، والتي أغلق الجيش الطرق المؤدية إليهما، يبدو كل شيء محترقاً تقريباً. وطاول الدمار جميع المباني في هذه المنطقة، مع مجموعة من الدبابات والمركبات المدرعة التي تظهر ملقاة ومحترقة على جنبات الطريق. كما تعرضت مقار الصحف والإذاعات والمكاتب الإعلامية الواقعة في هذه المنطقة للدمار والحريق بشكل شبه كامل. في ما يخص الأوضاع الأمنية، تشهد بعض المناطق هدوءاً، بينما تشهد أخرى، خصوصاً في منطقة كرري بمدينة أم درمان، نشاطاً لعصابات مسلحة تروّع السكان وتمارس النهب ليل نهار. دفع ذلك السلطات لإطلاق حملات أمنية أسفرت خلال الأيام الماضية عن ضبط عدد من المتهمين، بعضهم ينتحل صفة عسكريين وبحوزتهم أسلحة نارية.

وفي منحى آخر، تعيش العاصمة الخرطوم أزمة في توفر مقابر ومساحات لدفن الموتى، بعد امتلاء جميع مقابرها نتيجة الحرب المشتعلة في البلاد منذ أكثر من عامين، فيما اضطر مواطنون في عدد من الأحياء إلى تحويل الميادين والمساحات الفارغة إلى مقابر، بعد نفاد المساحات المخصصة في المقابر. وقد كان المواطنون الذين علقوا في الخرطوم يدفنون الموتى وقتلى المعارك في جنبات الطرق والميادين والمساحات العامة، عندما يتعذر عليهم الوصول إلى المقابر طوال فترة وجود "الدعم السريع" في العاصمة. وحذرت لجنة الطوارئ وإدارة الأزمة بولاية الخرطوم، في بيان يوم الثاني من يوليو/ تموز الحالي، من غياب مساحات لدفن الموتى في المقابر الموجودة في المناطق الحضرية، مبينة أن المواطنين يدفنون موتاهم خارج أسوار المقابر، وعلى جنبات الطرق. وطالبت المواطنين بأهمية الالتزام بالدفن في المساحات والمواقع التي سيتم تحديدها.

عودة صعبة إلى الخرطوم

في حي الكلاكلة جنوبي الخرطوم، لم يستطع المواطن حمدان محمود، الذي عاد إلى منزله لتفقده، تجاوز ما أخبره به الجيران من أن مقاتلاً من "الدعم السريع" مدفون داخل المنزل، بعد أن دخل إليه وهو جريح جراء المعارك الأخيرة في الخرطوم، ثم مات قبل أن يدفنه شباب الحي داخله بعد تعفن الجثة. يقول حمدان، الذي أصيب بصدمة، لـ"العربي الجديد"، إنه أبلغ السلطات المحلية، والتي أرسلت فريقاً لأخذ الجثة، مضيفاً أنه لم يعد يشعر بالراحة في منزله، ويفكر في بيعه، خصوصاً بعد رفض أسرته العودة والسكن في المنزل مرة أخرى.

يعمل المواطن عبد السلام صالح على إعادة بناء ما دُمّر من منزله، لكنه لا يتوقع العودة للعيش فيه قريباً

العودة للاستقرار في الخرطوم لا تزال صعبة على البعض. المهندس الزراعي المتقاعد عبد السلام صالح، الذي يسكن في حي الخرطوم شرق، عاد إلى منزله في الأيام الماضية، ليجده خالياً من جميع الأثاث، إلى جانب ثقب كبير في السقف، ناتج عن قذيفة اخترقت الأرض أيضاً، وأحدثت دماراً وحريقاً كبيراً في المنزل. يقول صالح، لـ"العربي الجديد"، وهو يحمل مكنسة ويتفقد صورة على الحائط لابنه الذي قتل خلال تظاهرات الثورة ضد نظام عمر البشير في عام 2019، إنه عاد وحده، ويعمل حالياً على إعادة بناء ما دُمّر من المنزل. لكنه لا يتوقع العودة للعيش فيه قريباً مع أسرته، بسبب عدم وجود سكان آخرين في الحي، بجانب انعدام الماء وانقطاع الكهرباء. ويلفت إلى أنه يحضر يومياً لتأمين متطلبات النظافة والصيانة، ويشرب الماء من مركز قريب للشرطة عاد للعمل.

وفي الثالث من يوليو الحالي، أصدر مدير الإدارة العامة للمباني بوزارة التخطيط والنهضة العمرانية في الخرطوم، إبراهيم آدم، قراراً يمنع البدء بأي أعمال للمباني الخاصة والعامة المتضررة من الحرب. يشمل ذلك الإزالة والصيانة والترميم وإعادة التأهيل، إلا بعد الرجوع إلى إدارة المباني في الولاية من أجل عمل التقييم الفني لها، وضمان السلامة العامة.

نقل مقار وإعادة إعمار

يقول مصدر عسكري لـ"العربي الجديد" إن الحكومة تدرس نقل المقار والمواقع العسكرية إلى أطراف العاصمة، فيما نُقلت بالفعل بعض الوحدات، وذلك بغرض التأمين ومعالجة مشكلة وجود المواقع العسكرية داخل الأحياء السكنية. ويشير المصدر إلى أن هذا الأمر كان من أكبر التحديات خلال المواجهات مع "الدعم السريع"، والتي كانت تمتلك أيضاً عدداً من المواقع العسكرية ومخازن الأسلحة داخل الأحياء السكنية.

تقوى محمد علي: سيصعب على المواطنين إعادة بناء منازلهم بسبب الإفقار الذي تعرضوا له بفعل الحرب

من جهتها ترى الباحثة الاجتماعية، تقوى محمد علي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الخرطوم لن تعود كما كانت من قبل، لأن الكثير من المباني والمنازل تعرضت إلى تدمير كبير، ويجب إزالتها وإعادة بنائها من جديد". وتضيف أنه "في ما يخص المباني التي تتبع للحكومة أو الشركات والمنظمات، من المتوقع أن يُعاد بناؤها خلال فترة إعادة الإعمار، لكن منازل المواطنين سيصعب على أصحابها فعل ذلك، بسبب الإفقار الذي تعرضوا له بسبب الحرب". وتريد الحكومة، وفق تقوى محمد علي، إعادة العاصمة إلى العمل "لما لها من رمزية سياسية للسلطة، وباعتبارها مركزاً للحكم وقيادة الجيش، لذلك تعمل فرق الماء والكهرباء بصورة متسارعة حالياً لاستعادة الخدمات من أجل إقناع السكان بالعودة، والذين لن يعود الكثيرون منهم، خصوصاً الذين غادروا إلى خارج البلاد، إلا بعد التأكد من أن المدينة أصبحت صالحة للحياة من جديد". وبرأيها "ربما لا يعود البعض إلا بعد سنوات"، لافتةً إلى أن "الحياة الاجتماعية في العاصمة تعرّضت لضربة عنيفة، إذ تحول جيران لأعداء بسبب الحرب، ومات آخرون داخل منازلهم، وانضم بعض منهم إلى هذا الطرف أو ذاك، ما سيُحدث تغييرات اجتماعية كبيرة خلال الفترة المقبلة".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows