
تتجه الجزائر إلى استهلاك جزء من أرصدة صندوق مالي سيادي لمحاولة سد أكبر عجز موازنة في تاريخ البلاد، خصوصاً في ظل تراجع أسعار النفط، مصدر الدخل الرئيس للبلد العربي من النقد الأجنبي، واقترابها من المستوى المعتمد من طرف السلطات وهو 60 دولاراً للبرميل، وبالتالي تجاوز اعتماد قانون موازنة تصحيحي.
وتضمنت موازنة الجزائر للسنة الجارية مستوى إنفاق غير مسبوق تجاوز 126 مليار دولار، مع مستوى إيرادات يقدر بنحو 62 مليار دولار، مقارنة بـ44 مليار دولار في 2024، بزيادة تقارب 18 مليار دولار خلال سنة واحدة فقط. وعلى مدار العقود الماضية، دأبت الجزائر على اعتماد قانون موازنة تكميلي (تصحيحي) في السنوات التي تشهد أزمات نفطية وتراجعاً غير متوقع في الإيرادات بفعل تقلبات أسعار النفط والغاز. وقانون الموازنة التكميلي الذي عادة ما تلجأ إليه الدولة بحسب الحاجة، يهدف إلى إقرار مخصصات مالية جديدة، أو تغيير تقديرات الإيرادات، أو لاستحداث أخرى والترخيص بنفقات جديدة.
وأحدثت الأوضاع الجيوسياسية والنزاعات المسلحة في الشرق الأوسط خصوصاً الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية، حالة من الترقب في الأوسط الاقتصادية والسياسية الجزائرية، بالنظر على تداعيات هذه الأحداث على أسعار النفط والغاز، في ظل الاعتماد اقتصاد الجزائر على تبعية مفرطة للإيرادات النفطية والغازية.
ومع انخفاض أسعار النفط واقترابها من مستوى 60 دولاراً للبرميل، وهو السعر المرجعي نفسه المعتمد في قانون الموازنة للجزائر لهذا العام، زادت حالة الترقب في البلاد، وخصوصاً حتمية إيجاد هوامش مناورة لمواجهة هذه الوضعية.
ومع ذلك تتوفر البلاد على احتياطات لا بأس بها من النقد الأجنبي. ورغم محاولات الحكومة تنويع الاقتصاد وتقليص الاعتماد على صادرات النفط والغاز، لا تزال المحروقات (المنتجات النفطية) تشكل نحو من 90% من إيرادات البلاد من النقد الأجنبي.
وبلغت الصادرات غير النفطية في عهد الرئيس عبد المجيد تبون مستويات تاريخية لم تصلها منذ الاستقلال قبل نحو ستة عقود، إذ تجاوزت 7 مليارات دولار عام 2022، ثم تراجعت إلى نحو 5 مليارات دولار في العامين الماضيين.
وتسعى السلطات لزيادة صادرات البلاد خارج المحروقات خصوصاً من منتجات زراعية مختلفة (تمور وخضر وفواكه) ومعادن خام وأسمدة ومخصبات زراعية ومواد البناء (إسمنت وحديد). وفي أكثر من مرة أكد الرئيس الجزائري أن بلاده ترفض بشكل قاطع اللجوء إلى المديونية الخارجية لتمويل الاقتصاد، وستعتمد على تنويع الاقتصاد وزيادة الصادرات النفطية وغير النفطية.
تحذيرات صندوق النقد الدولي
وفي ختام زيارة لبعثة صندوق النقد الدولي إلى الجزائر خلال الفترة من 16 إلى 30 يونيو/حزيران الماضي، والتي أجرت خلالها مشاورات مع السلطات، قالت البعثة إنه رغم تسجيل الاقتصاد الجزائري نمواً خارج قطاع المحروقات بنسبة 4.2% خلال 2024، إلا أن البلاد تواجه ضغوطاً مالية متزايدة، نتيجة تراجع مداخيل النفط والغاز. فقد أدّت تخفيضات إنتاج تحالف "أوبك+"، وتراجع أسعار الغاز إلى تحويل ميزان الحساب الجاري إلى عجز، في وقت اتسع فيه عجز الموازنة ليبلغ مستوى مقلقاً عند 13.9% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأرجعت بعثة صندوق النقد هذا التدهور، إلى ارتفاع الإنفاق العمومي، خاصة على الأجور والاستثمار، مقابل تراجع محسوس في الإيرادات البترولية، وتوقعت أن يبقى العجز مرتفعا خلال 2025، ما سيولد احتياجات تمويلية ضخمة، ويُفاقم من مخاطر ارتفاع الدين العام في الأمد المتوسط، ما لم تُعتمد سياسات تصحيحية حازمة. ودعت المؤسسة المالية الدولية في بيان لها، إلى تبني استراتيجية ضبط مالي تدريجية، ولكن حاسمة، تُركز على تعبئة الإيرادات غير النفطية وترشيد النفقات، بما في ذلك إصلاح نظام الدعم. ورغم ذلك لفتت البعثة إلى أن الاحتياطات الجزائرية من النقد الأجنبي لا تزال مرتفعة غذ تقدر حاليا بـ 67.8 مليار دولار، ما يغطي 14 شهراً من الواردات.
هذا ما سيضخ من الصندوق السيادي
في هذا السياق، أوضح أسامة عرباوي، وهو رئيس لجنة المالية والميزانية في المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان)، أن دور صندوق ضبط الإيرادات، الذي تأسس خصيصاً لدعم الميزانية في أوقات الأزمات، يعد أداة رئيسية في الوقت الراهن للتقليل من عجز الموازنة.
وأشار النائب الجزائري المنتمي لحزب جبهة التحرير الوطني (موالاة)، أنه وفقا للبيانات الرسمية المتوفرة، فإن هذا الصندوق يتوفر حالياً على حوالي 7.5 تريليونات دينار (حوالي 58 مليار دولار).
وصندوق ضبط الإيرادات بالجزائر عبارة عن صندوق مالي سيادي مملوك للحكومة، تُضخ فيه أرصدة مالية متأتية من الفارق بين السعر المرجعي لبرميل النفط المعتمد في قانون الموازنة وقيمته التسويقية الفعلية، حيث إنه عادة السعر المرجعي يكون اقل من السعر التسويقي.
ولفت عرباوي إلى أن هذا الصندوق السيادي يُتوقع أن يساهم في تغطية جزء من العجز المالي، من خلال ضخ ما بين 2.5 تريليون دينار و3 تريليونات دينار (19- 23 مليار دولار). وأضاف "مع ذلك، فإن الإفراط في استخدام موارد الصندوق قد يؤدي إلى استنزافه، مما يهدد استقراره كآلية استراتيجية للمستقبل".
محاصرة التهرب الضريبي
وبالنظر لأهمية ضبط التوازن المالي، أوضح رئيس لجنة المالية والميزانية في المجلس الشعبي الوطني أن هناك عدة خيارات وإجراءات يمكن النظر فيها، على غرار تعزيز الإيرادات خارج قطاع المحروقات، حيث تشير الإحصائيات إلى أن مساهمة القطاعات غير النفطية لا تتجاوز 17% من إجمالي الإيرادات العامة.
واعتبر أن تحسين التحصيل الضريبي، يمكن أن يكون من الأدوات المستعملة في تغطية جزء من العجز، مشيرا إلى أن حجم التهرب الضريبي يقدر بحوالي 4 تريليونات دينار سنوياً (31 مليار دولار)، وهي مبالغ يمكن أن تساهم في زيادة الإيرادات بشكل كبير. ولفت عرباوي إلى أن تنشيط القطاعات الصناعية والزراعية صار ضروريا، من منطلق أن الصناعة تشكل حوالي 5% والزراعة 12% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسب متواضعة مقارنة بالإمكانات المتوفرة.
ورأى أن الاستثمار في السياحة يمكن أن يساهم في التقليل من عجز الموازنة، مشيرا إلى أن الإيرادات السنوية أقل من 500 مليون دولار، بينما تحقق دول الجوار أرقاماً تفوق 10 مليارات دولار. وشدد على أن مستويات الإنفاق الحكومي لا تزال مرتفعة بشكل لافت، إذ تستهلك الدولة ما يعادل نصف الناتج الداخلي الخام، وبرأيه، فإن تقليص هذا الإنفاق بنحو 10% فقط من شأنه أن يوفر ما يزيد عن 4 تريليونات دينار (31 مليار دولار)، خاصة إذا رافق ذلك مكافحة للفساد وتحسين إدارة المشاريع الكبرى، بما سيسهم حسبه في خفض الإنفاق وزيادة الفعالية.
الاقتراض الداخلي لتغطية العجز المالي
ويُدافع النائب عرباوي عن خيار التمويل الداخلي حلا "آمنا" لتغطية العجز، بالنظر إلى وفرة السيولة لدى البنوك الوطنية، والتي تقدر بأكثر من 10 تريليونات دينار (أكثر من 77 مليار دولار)، فضلا عن إصدار سندات سيادية لجذب الاستثمار الأجنبي ما قد يتيح توفير حوالي 5 مليارات دولار.
وبخصوص التنويع الاقتصاد خارج المحروقات (نفط وغاز)، أوضح رئيس لجنة المالية والميزانية، أن البيانات الرسمية تظهر أن قيمة الصادرات غير النفطية بلغت حوالي 5 مليارات دولار في 2024، مع هدف لرفعها إلى 7 مليارات دولار في 2025، مشيرا إلى أنها تشمل خصوصا الحديد والفوسفات والأسمدة وبعض المنتجات الزراعية. وأضاف أنه "رغم الجهود المبذولة، إلا أن هذه الأرقام ما زالت متواضعة أمام حجم الواردات التي تبلغ حوالي 45 مليار دولار سنويا، مما يبقي العجز في الميزان التجاري تحديا كبيرا".

Related News


