
في قلب الدار البيضاء، يُعيد المعرض الوطني للكتاب المستعمل الحياة إلى عشرات الآلاف من العناوين المنسية والإصدارات المتنوعة، جامعاً بين دفتيه عشاق القراءة وباعة كتب يوحدهم شغف المهنة.
تتواصل في مدينة الدار البيضاء المغربية فعاليات الدورة الثالثة عشرة من المعرض الوطني للكتاب المستعمل، حيث يُعرض أكثر من 20 ألف عنوان في فضاء مفتوح، وسط إقبال ملحوظ من القرّاء والباحثين والطلبة، بحثاً عن كتب نادرة، وشغفاً بالأنشطة الثقافية الموازية. ويُعدّ هذا الحدث الذي عاد إلى النبض بعد انقطاع دام منذ جائحة كورونا، فرصةً لإحياء العلاقة بالكتاب الورقي، وإعادة الاعتبار لفعل القراءة باعتباره مدخلاً إلى الإبداع والمعرفة.
اختار المنظمون شعار: "الكتاب المستعمل… ذاكرة تتحدى النسيان"، في تظاهرة ثقافية انطلقت في 27 يونيو/حزيران وتستمر حتى 10 يوليو/تموز الجاري، بتنظيم من جمعية نادي القلم المغربي، وبدعم من مجلس مقاطعة الفداء. وتحتفي هذه الدورة بأعلام الفكر المغربي، وتركّز على رموز الفعل الثقافي بمنطقة الفداء مرس السلطان، كما تواكب التحولات الثقافية والاجتماعية عبر تقديم إصدارات جديدة ومساءلة أسئلتها الراهنة.
في هذا السياق، يعبّر يوسف بورة، مدير المعرض ورئيس الجمعية البيضاوية للكتبيين (باعة الكتب)، عن سعادته بعودة هذا الحدث الثقافي بعد سنوات من الغياب، مشيراً إلى أنه يمثل حاضنةً ثقافية واجتماعيةً وذاكرة حيّةً، حيث يعرض هذه الدورة نحو 20 ألف كتاب مستعمل، بمشاركة حوالي 30 عارضاً من مختلف المدن المغربية، إلى جانب باعة كتب من مصر.
ويستحضر بورة في حديثه، أسواقاً شهيرةً ارتبطت بالكتاب والثقافة في العالم العربي، مثل "سوق الأزبكية" في القاهرة و"شارع المتنبي" في بغداد، مؤكداً أن هذا المعرض ينتمي إلى التقاليد الثقافية ذاتها، التي تراهن على إحياء الكتاب المستعمل، وربط جسور التواصل مع القرّاء من طنجة إلى الكويرة، في فضاء مفتوح وقريب من الناس، يتنفس المعرفة ويحتفي بالذاكرة. ولم يخف رغبته في أن يحظى المعرض مستقبلاً بالرعاية الملكية، تثميناً لدوره الثقافي المهم.
في موازاة عرض الكتب، يشكّل البرنامج الثقافي المصاحب أحد أبرز محطات المعرض، حيث يشهد تنظيم لقاءات فكرية وتوقيع إصدارات جديدة وورشات متنوعة تسعى إلى إحياء النقاش الثقافي وتعزيز حضور الكتاب في الفضاء العمومي.
في هذا السياق، يؤكد سالم الفائدة، المنسق العام للبرنامج الثقافي، أن برنامج هذه الدورة "غني ومتنوع، ويضم أكثر من 30 لقاءً ثقافياً بين ندوات وموائد مستديرة وتوقيعات وورش فنية، في محاولة لإعادة نبض الحياة الثقافية إلى المدينة". ويضيف: "حرصنا على أن يكون البرنامج متعدداً وغنياً بمشاركة كتاب ومبدعين من مشارب متعددة، ومراعاة لقضايا الذاكرة والتاريخ، والسينما والمسرح، والكتابة النسائية، إضافة إلى معرض فني وورش موجهة للأطفال". كما يشير إلى أنه تم تخصيص مساحة مهمة للشباب لتوقيع إنتاجاتهم الفكرية والنقدية والإبداعية.
أما بخصوص شعار الدورة "الكتاب المستعمل... ذاكرة تتحدى النسيان" فيرى الفائدة أنه جاء لعدة اعتبارات، أبرزها ما نلاحظه اليوم من انفتاح واسع على المعلومة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ما جعل الكتاب الورقي عنصراً يتيماً وسط هذه المعادلة الجديدة. كما يعكس الشعار واقع باعة الكتب، باعتبارهم فئة تعتمد في معيشتها على بيع الكتب القديمة، ويُبرز أهمية الكتاب الورقي في حفظ الذاكرة الجماعية والفردية.
ويضيف أن ترحيل المعرض الدولي للنشر والكتاب إلى الرباط جعل الدار البيضاء فضاءً إسمنتياً فاقداً للروح، ما يمنح لهذا الحدث بُعداً رمزياً في إعادة الحياة إلى المدينة والفعل الثقافي فيها. "الكتاب الورقي، في ظل هذه التحديات، يظل فعلاً من أفعال المقاومة، يتحدى النسيان ويُرسّخ الذاكرة" يقول الفائدة.
ويوضح أن الرهان معقود على إنجاح هذه الدورة، في أفق استعادة زخم المعرض خلال الدورات المقبلة، ليكون في مستوى أفضل، بمشاركة أوسع، وفي فضاء يليق بهذا الحدث الثقافي الفريد من نوعه في مدينة الدار البيضاء، بما يعزز مكانته ضمن المشهد الثقافي المغربي. كما يستحضر إصداراً توثيقياً صدر سنة 2019 بعنوان "ثقافات الهامش والهويات العليا"، من تنسيقه إلى جانب إبراهيم أزوغ، يرصد تجربة المعرض خلال دوراته من 2008 إلى 2018، ويهدف إلى حفظ ذاكرة هذا الحدث ونقلها إلى الأجيال المقبلة.
من جهته، يقول عبد الكريم أنهاري، أحد أقدم باعة الكتب المستعملة، أول دورة للمعرض كانت سنة 2008 في ساحة السراغنة، ثم توقف منذ 2019 كأنه في غرفة الإنعاش، واليوم نحاول جاهدين أن نعيد إليه الحياة". أما عن الكتب المطلوبة، فيؤكد أنهاري أن الفلسفة، وتاريخ المغرب، والأدب الروسي من بين أكثر المجالات إقبالاً.
فيما يشير جواد مغير، وهو بائع كتب يشارك للمرة الخامسة في المعرض، إلى أن الإقبال متوسط لكنه نوعي، ويقول: "لكل كتاب قارئه، وأنا أؤمن بأن الكتاب المستعمل يستحق الإحياء، لأنه يحمل ذاكرة وقيمة معرفية نادرة". ويطالب مغير بتوسيع المبادرات الثقافية وعدم الاكتفاء بدورة سنوية، مشدداً على دور المجتمع المدني في تحفيز القراءة، خصوصاً لدى الأجيال الصاعدة.
من جانبه، يقول بائع الكتب رشيد أحوفي إن الإقبال ظل مستمراً رغم ارتفاع درجات الحرارة، وإنه يعرض مؤلفات قيمة في الأدب والتاريخ، إضافة إلى ما يتضمنه المعرض من كتب ومخطوطات نادرة تلقى إقبالاً من القراء. ويختم أحوفي بالقول إن ما يدفع باعة الكتب إلى المشاركة ليس الربح المادي فقط، بل الإيمان بأنهم يساهمون في حفظ ذاكرة ثقافية مشتركة، واستعادة دور الكتاب الورقي بوصفه حارساً للمعرفة، وجسراً بين الأجيال.

Related News


