
لماذا بقيت النزعة الصّوفية خافتة في المدوّنة الشعرية الجزائرية بالرغم من كون المشهد الاجتماعي والديني الجزائري ثرياً بالممارسات الصّوفية؟ حيث تحتضن البلاد عدّة طرق، منها الطريقية التجانية التي يقدّر أتباعها بالملايين حول العالم، ومقرّها الدولي في بلدة عين ماضي التابع لمحافظة الأغواط، جنوب الجزائر العاصمة.
ويشمل المدّ الصوفي الجهات الأربع للبلاد تماشياً مع المرجعية الدينية الرسمية التي تقوم على مقولة "نتبع في الفقه مذهب الإمام مالك، وفي التصوّف طريقة الجُنيد السالك"، في إشارة إلى أبي القاسم الجنيد بن محمّد البغدادي المولود عام 830 للميلاد.
ومقابل أنماط شعرية وافدة من فضاءات بعيدة، مثل قصيدة الهايكو اليابانية، ثمة حضور محتشم للقصيدة الصوفية، خاصة عند الجيل الجديد، ما يجعل السؤال السابق مبرّراً.
تصوّف سياسي
بالحصول على الاستقلال عام 1962، فقد الشعراء الجزائريون المحفّز الثوري والمقاوماتي، فانخرط قطاع واسع منهم في الخطاب السياسي الرسمي بحجّة المساهمة في مسعى البناء، فانزاح الشعر عن مساره الرؤيوي والجمالي لصالح الدعاية السياسية الناسفة لروحه وجوهره.
وانبثقت من بين ذلك المدّ الأيديولوجي الاشتراكي تجربة الشاعر محمد مصطفى الغماري (1948) بنفَس أيديولوجي مغاير يقوم على الاستثمار في الثورة الإسلامية الإيرانية، فبدا ديوانه "خضراء تشرق من طهران" في حكم بيان جمالي لإحداث تغيير، ليس على مستوى القاموس فقط، بل أيضاً على مستوى مقاصد المفردات الصوفية المستعملة.
وجد الخيار الصّوفي المسيّس نفسه أمام مأزقٍ حقيقي
فلم يعد المناجى في القصيدة الصّوفية الغمارية هو الذات الإلهية كما درجت عليه القصيدة الصّوفية، بل "خضراء" التي تعني استعادة المسار الحضاري للأمة في شقه الإسلامي تحديداً. لقد وجد صاحب ديوان "أسرار الغربة" في استدعاء عرّابي التصوّف المؤسّسين، أمثال الجنيد والنفري وابن عربي والحلّاج، وما يحيط بسيرهم من مغايرة للسائد متبوعة بالقمع الرسمي، فمعظهم مات مقتولاً أو مسجوناً، إلى مدوّنته الشعرية، عزاءً في غربته السياسية والحضارية، ليشير إلى غربة، ولكن أيضاً إلى قوة ما يراه حقاً في زمن الباطل، فكانت خلفية التصوّف الذي اشتغل عليه سياسية لا خلفية روحية ووجدانية تقوم على التجربة الذاتية.
لكن هذا الخيار الصّوفي المسيّس في الكتابة الشعرية الجزائرية سرعان ما وجد نفسه أمام مأزق حقيقي تمثّل في انخراط الجناح السياسي للحركة الإسلامية في العمل المسلّح المفضي إلى قتل النفوس، ما جرّده من صدقه ومصداقيته ووضعه أمام تناقض الخطاب والسّلوك.
تصوّف مضاد للموت
سمح هذا الوضع الحاد في المشهد الجزائري بتشكّل عفوي لمقاومة ثقافية وفنية وأدبية لذاك المسعى المدمّر، ما أدّى بتلك الجماعات إلى أن تضع الفنّانين والأدباء والمفكرين التنوريين ضمن قوائم التصفية الجسدية.
وكان الشعر من أكثر الفنون انخراطاً في مسعى المقاومة الجمالية لخطاب الموت، وطرحت النّزعة الصوفية المنزّهة عن الدافع السّياسي نفسَها أداةً فعّالة لممارسة تلك المقاومة، فظهرت عدّة خيارات صوفية في الكتابة الشعرية خلال تلك المرحلة، منها خيار التماهي مع الأماكن الجزائرية، لتحريضها على التماسك أمام آلة التخريب، ولتخليد ملامحها ضدّ النسيان.
وتُعدّ تجربة الشاعر عثمان لوصيف (1951- 2018) نموذجية في هذا الباب، فقد كان يسافر إلى المدن الجزائرية، ويكتب عنها بنبرة صوفية هي ثمرة لتماهي الذات الكاتبة مع روح المكان الذي يتحوّل، داخل نصوصه، إلى رمز للتطهر والضوء، في زمن ظلامي أهوج.
من هنا؛ كانت معارضته الشعرية لقصيدة "باتنة" للشاعر العراقي سعدي يوسف أثناء إقامته الجزائرية، حيث أبدى سعدي تبرّمه من رتابة مدينة باتنة بقوله: "جبال كمكّة جرداء. وادٍ كمكّة لا زرع فيه. وأنت الهلالي أفقر من ذرّة الرمال. بدّلتَ تيهاً بتيه". وأبدى عثمان نظرة مغايرة تماماً للمدينة نفسها: "مستلماً ركنها الحجريَّ. هائماً في الذرى. خاشعاً. ضارعاً. يتهجّى صخورها الملاحمَ. مستلماً وجهها المتمرّد. مستبطناً عرسها الدموي".
تحرير اللغة
بالموازاة، انبثق تيّار صوفي لا يزال سارياً إلى غاية اليوم، نستطيع أن نسمّيه التصوّف اللغويّ، أو صوفية القاموس، حيث تُشحن المفردة الشعرية بأنساغ صوفية، من غير أن تكون لها المدلولات الصّوفية نفسها المحيلة على الحقل الديني والعرفاني في الموروث الإسلامي، ما يجعلها أقرب إلى التصوّف الغربي، خاصّة أن كتاب هذا النمط يميلون إلى قصيدة النثر.
فالمتأمّل في نصوص الشاعر عبد الحميد شكيل (1950)، يقف على صوفية مغايرة، لها متكأ تراثي عربي إسلامي، لكنه سرعان ما يتم تجاوزه لصالح آفاق دلالية مستمدّة من بلاغة التماهي مع العناصر الكونية، خاصة عناصر الطبيعة منها، فهي صوفية اختراق للسائد، قصد تحرير اللغة من الشحنات الأصولية والدموية والمتشنّجة من الخطاب الإنساني والجمالي في أبعاده الكونية.
التصوّف والمقاومة
في هذا السياق، يلاحظ أن نخبة من الشعراء الجزائريين، منها ياسين بن عبيد والأخضر بركة ومصطفى دحية وأحمد عبد الكريم، قاومت خطاب الموت والإرهاب والاحتلال بمختلف مفاهيمه من خلال "تصويف" القصيدة، مؤكدةً أن التصوّف الجزائري سلوكاً وكتابةً ارتبط تاريخياً بفعل المقاومة.
تستعاد في البدء تجربة الأمير عبد القادر الجزائري الذي تعتبره الأدبيات السّياسية الجزائرية مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة، إذ قاد المقاومة الشاملة ضد الاحتلال الفرنسي قبل نفيه إلى فرنسا، ثم إلى دمشق، ما بين عامي 1832 و1847. وجمعت التجربة الصّوفية للأمير الثائر والمثقف بين الشعر والنثر، وبين السّلوك والتنظير، حتى إنه أوصى بأن يُدفن إلى جوار قبر صاحب "فصوص الحكم" محي الدين بن عربي في دمشق عام 1883، ما ارتقى بها إلى أن تكون عتبة تأسيسية حقيقية في الكتابة الشعرية الصّوفية الجزائرية.
التجربة الصّوفية للأمير، في سياقها التاريخي، لها دافعان رئيسيان، بالإضافة إلى تكوينه الشّخصي، هما كونُه رأى في التصوّف، ببعده الإسلامي، آليةً لتكريس الهوّية الجزائرية في مقابل الهوية الغربية الوافدة، من خلال السّياسة الاستعمارية القائمة على الطّمس والتغيير الهوّياتيين بما يتيحه الشقّ الاجتماعي للتصوّف من هيمنة قيم التكافل والتعاون والتلاحم. وهو ما كانت محتاجةً إليه، وقتئذٍ، اللّحظة الوطنية القائمة.
تصوّف بلغة الأم
ولسبب من الأسباب الموضوعية، منها تراجع الكتابة باللغة العربية الفصحى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لكونها كانت مستهدفة مباشرة من طرف الآلة الفرنسية، فقد انتعش الشعر المكتوب باللغة المحكية المعروف بـ"الشعر الشعبي" أو "الشعر الملحون"، بشقّيه العربي والأمازيغي، فكان حاضنة جمالية للمفردة الصّوفية.
ووجد المغنّون الشعبيون، على اختلاف مدارسهم، في هذه المشتلة الجمالية الصّوفية ضالتهم، فساهموا في تسويق معظم نصوصها، بل إنه بات سائداً ختمُ القصائد الغزلية، بما فيها الإباحية، بالاستغفار والمديح النبوي، ليس من باب التناقض في الخطاب، بل من باب التذكير بالرمز الحضاري الذي يميّز الجزائري عن الفرنسي.
* شاعر وكاتب من الجزائر

Related News

