اقتباس جديد لـ"صباح الخير أيها الحزن": عن علاقات وحب وانكسار أرواح
Arab
6 days ago
share

 

في أول تجربة سينمائية لها، اختارت المخرجة والكاتبة الكندية دورغا تشو - بوس المناخ الرومانسي، وما يفرزه من تعقيدات درامية ومشاعر مرهفة على الأفراد والعلاقات. وهذا في روائي طويل مقتبس من رواية "صباح الخير أيها الحزن" (1954) للفرنسية فرانسواز ساغان. الرواية، التي تعتبر من الأعمال الأدبية المهمّة والمؤثّرة، مقتبسة في أعمال سينمائية وتلفزيونية ومسرحية عدّة، أشهرها الفيلم البريطاني ـ الأميركي (1958)، لأوتو بريمينغر.

كغيرها من مقتبسي الرواية، حافظت تشو ـ بوس على العنوان الأصلي، ولم تكتفِ بالإخراج فقط، بل كتبت السيناريو أيضاً، ربما لقربها من النص، خاصة أنّ لها تجارب في الأدب، تحديداً في كتابة الرواية.

يروي الفيلم، المعروض للمرة الأولى دولياً في الدورة الـ49 (5 ـ 15 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي"، قصة المراهقة سيسيل (ليلي ماكْلنرْني)، ذات الأعوام الـ17، التي تمضي صيفاً هانئاً في الريفييرا الفرنسية مع والدها الأرمل ريمون (كلايس بانغ) وصديقته إلسا (نايليا هارزون). فجأة، تتغيّر أجواء العطلة، بعد دعوة ريمون لآن (كلوي سيفيني)، مُصمّمة الأزياء، وصديقة قديمة لزوجته الراحلة، التي لها شخصية متحكّمة ومنضبطة وصارمة. مع وصولها، تبدأ التأثير بسيسيل، وتمارس دور الأم عليها، ما يُصعِّد التوتر، ويُنتج عواقب مأساوية، فتأخذ القصة بعداً آخر تماماً، وتحدث مفاجآت كثيرة لم يتوقّعها أحد.

استطاع مدير التصوير ماكسيميليان بيتْنر أنْ يجعل المناظر الطبيعية للريفييرا عنصراً محورياً ونابضاً، يُكمّل منطلقات الموضوع وأبعاده الفلسفية، التي تناولت تفكيك العلاقات وإعادة تجميعها وفقاً لسياق تواصلي معيّن بين الأفراد، خاصة عبر علاقة الأب بابنته، أو الصبيّة وصديقتيْ والدها، وصديقها سيريل (أليوشا شنايدر) الذي يقاربها سنّاً، ويبادلها مشاعر الودّ.

 

 

هذه المنطلقات والصراعات أتت إفرازاتٍ من السلوكات والتصرّفات البشرية، ومدى تشابك العلاقات وتعقيدها في رسم مفاصل الحياة، المتّجهة دائماً إلى الغموض، لتكون فضاءات الأحداث مُحرّكاً رئيسياً في استظهار تلك المشاعر، حتى إنّه يُمكن للمتلقي أنْ يتشابك مع تلك المناظر، وإنِ ابتعد عن الموضوع، من دون أنْ يؤثّر على منطلقات تأويله واستيعابها، لأنّ المشاهد ملتَقَطة بعناية فائقة، وأوجدت هي الأخرى علاقة تواصلية قوية، إذْ تمّ تقوية معناها وأهميتها، أي إنّ صورة البحر، وطريقة ملامسة مياهه للجسد، ومناظره البانورامية وتنوّعها، وصُور البيت المبني بالحجر المصقول، وطريقة توزيع الموجودات فيه، وتداخل الأشجار والغابة، والأبواب الكبيرة المشرعة، والنوافذ الكبيرة التي تُسرّب الضوء إلى البيت، والشرفات المطلّة على البحر مباشرة، والحجر المنضد المترامي على الشاطئ، كلّها معطيات قوّت الجانب الرومانسي، وفي الوقت نفسه هَذّبت منطلقات المتلقّي، وجعلته يحسّ أكثر بتلك الموجودات البصرية الطبيعية، ويلتحم معها مباشرة، فيتشابك مع الموضوع وركائزه الرومانسية.

ظهرت هذه النتائج الجمالية، والحالات البصرية والموضوعية، بفضل توجيهات دورغا تشو - بوس ورؤاها، مع فريق عملها، لفهمها جيداً أبعاد الرواية المقتبسة، ليس بموضوعها فقط، بل بوصف الفضاءات التي جرت فيها تلك الأحداث المتداخلة، التي أفرزتها علاقات الأفراد.

استطاعت تشو ـ بوس أنْ تسيطر على الزمن الدرامي (110 دقائق)، بمحافظتها على الترقّب والإثارة والانتظار، مع تمكّنها من اختيار الممثلين وإدارتهم بوصفها مخرجة محترفة، لا توحي بأنّها أمام أول فيلمٍ لها. من هؤلاء الذين قدّموا دفعاً قوياً لـ"صباح الخير أيها الحزن"، الممثل والموسيقي الدنماركي كلايس بانغ، مؤدّي شخصية ريمون، الذي يريد توطيد علاقته بابنته، وفي الوقت نفسه يريد خلق علاقة مع صديقة زوجته المتوفاة، مع تخلّيه عن صديقته إلسا. من هنا تظهر قوّة الممثل الذي قدّم دوراً بارداً ومُتلاعباً ومُركّباً، بفضل تجاربه السينمائية السابقة، كـ"الساحة" (2017) للسويدي روبن أوستلوند، الفائز بالسعفة الذهبية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/أيار 2017) لمهرجان "كانّ".

هناك أيضاً نايليا هارزون، الممثلة الفرنسية ذات الأصل الجزائري، التي أبرزت القدر نفسه من الاحترافية والوعي بالشخصية، وليلي ماكْلنرْني، مؤدّية دور المُراهقة، التي تتعامل مع مستجدات الحياة وتفاصيلها بصدمة ومقدرة في آن واحد، لكنّها تحافظ على وقارها ورزانتها. ساعدت الملامح الطفولية لوجهها على تمثيل تلك الشخصية بكلّ براعة.

"صباح الخير أيها الحزن" فيلم رقيق ومُرهف، يشحن النَّفْس البشرية بالمنطلقات الرومانسية، ويُذكّر بالجماليات التي تحيط بالناس وتسكن فيهم. فيلمٌ يعرف كيف يهذّب الأرواح، ويقودها إلى مراحل مهمّة من الحياة، خاصة عندما يتخلّى الفرد عن متطلباتها وتعقيداتها، ويواجهها أمام منظر جميل، وفي يده كتاب، كما فعلت دورغا تشو - بوس بمعظم الشخصيات.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows