طريق دمشق - حلب... قصة الإهمال والدمار
Arab
6 days ago
share

رحلة غير عادية. كل تفصيل على الدرب له دلالة خاصة، لمن يعيد التعرف على مدن سورية بعد غياب طويل. نقطة البداية من العاصمة، لافتة مكتوبة بلون أزرق، وخط عريض، "طريق دمشق حلب الدولي"، ما يوحي بأن وجهة السفر خارج الحدود، وعلينا أن نستعد لذلك. حلب شقيقة دمشق الثانية من حيث الأهمية، والمسافة بينهما، تبلغ قرابة 400 كيلومتر. يقطعها المسافر من دون أن يعبر مراكز المدن الواقعة على الطريق العام، وهي على التوالي، حمص، حماة، خان شيخون، معرة النعمان، وسراقب.

اختلف الأمر عمّا كان عليه في زمن بعيد، حينما كان الطريق يخترق حمص، ويتوقف في وسطها المسافرون من أجل الاستراحة، وكذلك الحال بالنسبة لحماة، حيث يلتقط المسافر صورة تذكارية بواسطة كاميرا "بولورويد" بقرب النواعير في مدخل المدينة الشرقي. كراج الحافلات الذاهبة إلى حلب بات خارج العاصمة، يقع في منطقة حرستا، بعد أن كان في وسطها قرب مبنى المحافظة. ويبدو أن هذا التحوّل حصل منذ عدة أعوام لأسباب، منها أمنية، وأخرى ذات طبيعة تتعلق بتخفيف عدد السيارات التي تدخل دمشق.

حين يصل المسافر إلى الكراج يكتشف أن التداعيات التي عاشتها دمشق غيرت الكثير من تفاصيل حياة السوريين، لم تعد هناك حافلات شعبية خاصة بالجنود والفئات من محدودي الدخل، وأخرى بذوي الدخل المتوسط. ساوى الانهيار الاقتصادي بين الجميع، وباتوا من فئة واحدة. يزدحم الكراج بالمسافرين، وسط إجراءات تفتيش أمني غير مشدد، تحسباً من تفجيرات أو نقل أسلحة وممنوعات، حيث تعلو نداءات الدلالين الباحثين عن الركاب، وتدافع بين سائقي سيارات الأجرة، وهم يحاولون اقتناص المسافرين الواصلين من محافظات حلب وحمص وحماة وإدلب والساحل.


على جانبي الطريق بين دمشق وحمص لا شيء مميزاً سوى بعض البلدات التي تتشارك الإهمال


كي يضمن المسافر أنه سيحظى بموقع، عليه أن يقصد الكراج قبل أن يقرر السفر بـ24 ساعة، ليحجز مكانه على إحدى حافلات شركة "الأمير" الأكثر شهرة، والتي باتت مكتظة بعد أن توقفت منافستها شركة "طروادة" عن العمل، كونها مملوكة من طرف زوجة الرئيس المخلوع أسماء الأسد، التي أصبحت في الأعوام الأخيرة، أهم قطب اقتصادي في البلد. ليس هناك موقع لشركات السفر يمكن الحجز منها عن طريق الإنترنت، ولا يمكن للعملية أن تتم عن طريق الهاتف، كما أن مواعيد السفر غير منتظمة، ويصادف، في بعض الأيام، وجود أكثر من حافلة، وفي أيام أخرى ليس هناك حافلة مبرمجة، أو يمكن العثور على واحدة في منتصف الليل.

سعر التذكرة بين دمشق وحلب ليس مرتفعاً

سعر التذكرة بين دمشق وحلب ليس مرتفعاً، وهو يقارب عشرة دولارات، في حافلة مكيفة، وعلى درجة جيدة من الترتيب والنظافة ودقة المواعيد. لكل راكب مقعده وزجاجة ماء صغيرة، وشركاء متعددون. عائلات تسافر برفقة أطفالها. نساء بمفردهن من دون حجاب، وأخريات بحجاب، ورجال بمفردهم. قبل الانطلاق يجمع معاون السائق الهويات أو جوازات السفر، ومن ثم يغيب قرابة ربع ساعة ليعيد توزيعها. لا أحد يسافر من دون أوراق تعريف. تبدو المسألة مدروسة أمنياً، وهذا يريح السلطات من إيقاف الحافلة على الحواجز الأمنية الموجودة عند مخرج العاصمة، ومداخل المدن الأخرى. وحتى يصل المسافر إلى كراج الانطلاق، يقطع طريقاً يمر من حي العدوي، الذي يميزه أنه يحتوي على حديقة كبيرة، وفي طرفه الآخر تقع كلية الزراعة التابعة لجامعة دمشق، حيث تم الحفاظ على آخر المساحات الخضراء، بعد أن تعرضت الغوطة إلى عملية اجتزاز ممنهج من أجل بناء غابات قبيحة من الإسمنت، طوقت المدينة وأفسدت مناخها.

وقبل الوصول إلى الكراجات لا بد من تجاوز منطقة القابون، التي خضعت لتدمير تام، بعد أن كانت مقسومة إلى منطقتين، واحدة صناعية، وأخرى عسكرية، حوّل النظام جزءاً منها إلى أحد أسوأ وأكبر السجون المعروف بسجن عدرا. تقطع الحافلة مسافة 20 كيلومتراً كي تخرج من دمشق، وتسلك الطريق العام باتجاه حلب بسرعة لا تتجاوز 50 كيلومتراً في الساعة، والسبب هو رداءة حال الطريق، الذي لا تتوافر فيه مواصفات الطريق الدولي. هو أشبه بالطرقات التي تربط بين القرى، لا يصلح لأن يستقبل حركة مسافرين بين أكبر مدينتين في سورية، كما أنه يربط العاصمة بأهم المحافظات. أول المآخذ أنه قديم لم يُجدد، ويحتوي على خانتين في الذهاب ومثلهما في الإياب، لا تتوافر، بما فيه الكفاية، الإشارات الإرشادية الدقيقة. لا يلبي شروط الطرق الدولية، لجهة تسهيل مهمة السائق، وتحديد المسافات، والإشارات الضوئية والمواقع. كما أنه يخلو من أعمدة إضاءة على الجانبين، ما يجعله محفوفاً بالمخاطر، ويعتمد على مهنية السائق الذي يتحمل مسؤولية حياة الركاب. كذلك لا توجد دورية شرطة سير واحدة على طول الطريق من دمشق لحلب.
يبدو الطريق الذي يربط بين دمشق والمدن السورية الكبرى، حلب، وحمص وحماة وإدلب والساحل ومنطقة الشرق التي تضم محافظات الرقة، دير الزور، الحسكة، وكأنه كان مقطوعاً لوقت طويل وعاد للاستعمال بعد سقوط النظام، رغم أن أغلبية المدن أعلاه كانت تحت سيطرة النظام، وآخرها حلب التي استعادها بدعم من إيران وروسيا عام 2016.

حال الطريق الدولي السيئ ينطبق على بقية المرافق العامة، التي لم تخضع للتجديد منذ زمن طويل، عدا أن بناءها لم يتم وفق استراتيجيات المدى البعيد. تبدو كأنها مبنية لبلد صغير المساحة بعدد محدود من السكان، وحركة تنقل قليلة، في حين أن ثقل البلد السكاني والاقتصادي يقع في المحافظات الأخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم تكن هناك وسائل نقل أخرى، جوية أو برية، فالمطارات المدنية في المدن خارج الخدمة، ولا توجد خطوط سكة حديد تربط دمشق وشقيقاتها.

بلد منكوب جراء نهب ثرواته

يرافق المسافر من دمشق على يسار الطريق سلسلة جبال لبنان الشرقية التي تبدأ من الساحل، وتعبر أطراف مدن إدلب وحماة وحمص، وهي سلسلة على غاية في الارتفاع، تبدأ في التدرج حتى تصل أعلى قممها حوالي ثلاثة آلاف متر في جبل الشيخ، ويعكس حالها وضع التنمية في هذا البلد المنكوب بنصف قرن من النهب لثرواته، فهي جبال جرداء، خالية من أي مظهر للخضرة أو العمران. وما يلفت الانتباه أن الدولة لم تشجر المناطق القريبة من الطريق العام، وهذا لا يعود إلى طبيعة المنطقة والتربة، أو أنها فقيرة بالمياه، بل هناك قرى تبدو خضراء ومبنية بالطرق الحديثة، مثل قرية دير عطية التي ينحدر منها سليم دعبول مدير مكتب الرئاسة في عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد، والذي بنى فيها ابنه جامعة خاصة، تشير اللافتة الخاصة بها على يمين الطريق "جامعة القلمون".

يرفع أبو سليم على مدخل قريته شعار "لا حياة بدون عمل"، لكن الطبيعة الخضراء لقريته دير عطية تفضح نمط التفكير لدى مسؤولي النظام السابق، وانصرافهم إلى توظيف مقدراته على حفظ أمن النظام، واستشراء الفساد والنهب والإهمال وعدم الاهتمام بتنمية البلد وتأهيله حضرياً. وهذا أمر ملحوظ على طول الطريق العام، ولا يقتصر على محيط العاصمة وحدها. ويكتشف المسافر تدريجياً أن كل القرى والاستراحات الجميلة، تم بناؤها بجهود ذاتية.


المظاهر العسكرية والقوات التي كانت تطوق العاصمة وتنتشر على الطرق بين المدن لم تعد موجودة نهائياً


على جانبي الطريق بين دمشق وحمص لا شيء مميزاً سوى بعض البلدات التي تتشارك الإهمال، قارة، يبرود، النبك، كما تحتل مساحة في ذاكرة السوريين. هي تقع في منطقة القلمون التابعة لمحافظة دمشق، من حيث التقسيم الإداري، ويبلغ تعداد كل منها عشرات الآلاف، بعضها تضم كليات عسكرية كالنبك، وأخرى تمتاز بطبيعتها وموقف أهلها منذ بداية الثورة، والذين قدموا تضحيات كبيرة.

المطحنة الوطنية على يسار الطريق، حيث تصطف عشرات الشاحنات، وهي تنقل القمح من أجل تزويد الأسواق بالدقيق. وهذا يفسر عدم وجود أزمة خبز بكل سورية بعد فترة قصيرة من وصول السلطة الجديدة إلى دمشق، والتي سعت بطرق مختلفة لإنهاء الأزمات التي كانت قائمة خلال حكم نظام الأسد، الذي قنن المواد الأولية بالبطاقة، من خبز وزيت وسكر ومحروقات، وهو ما بات متوافراً بكثرة وبأسعار أرخص. القطيفة التي تقع قرابة 50 كيلومتراً عن دمشق هي أول بلدة تظهر فيها المساحات الخضراء. تحتوي على آثار رومانية وسلجوقية. والملاحظ هنا عدد من اللافتات تشير إلى أديرة مسيحية، القديسة، مار موسى الحبشي السرياني، مار إليان بالقرب من القريتين، مار يعقوب بالقرب من قارة، وهي جميعها أثرية. عند قرية حسيا على بعد 40 كيلومتراً من حمص تبدأ الأراضي الزراعية، تليها قرية المعمورة، حيث بساتين الفواكه، وكلما اقتربت الحافلة أكثر زادت الخضرة على مد النظر، وتنتشر أشجار الكينا على نحو كثيف، بالإضافة إلى مظاهر رفاهية مثل "مطعم ومسبح الطريق السريع".

سلسلة جبال لبنان تنسحب تدريجياً نحو الساحل، ويميل لونها إلى الزرقة، بسبب الغيوم القادمة من جهة البحر. وفي الاستراحة على الطريق العام، يهب نسيم منعش، ليكسر حدة القيظ الزاحف من دمشق. وبعد قليل تلوح من بعيد أعمدة دخان من مصفاة حمص داخل المدينة، وعلى يسار الطريق إشارة زرقاء إلى مدينة مصياف. ومن هنا تظهر أولى البيوت المدمرة بفعل القصف على جانبي الطريق، وكلما تقدمت الحافلة زاد عدد المباني التي طاولها القصف، حتى تسلك الحافلة طريق حماة، حيث تنتشر بكثافة بساتين الفستق الحلبي، التين، الرمان، المشمش، التوت، وحقول القمح التي تم حصادها منذ وقت قريب، حيث تتراكم أكوام القش التي تركتها الحصادات وراءها.

يختفي مشهد الجبال الجرداء، ويبدأ الريف الزراعي بقوة، أراضٍ ممتدة على مساحات سهلية شاسعة، تربة غنية، ومصادر مياه وافرة، من نهر العاصي وسد الرستن والأمطار التي تجلبها الغيوم من الساحل. وتتكرر بين حين وآخر القرى ومضخات مياه، وفلاحون يعملون في المزارع، وحصادات، وعربات نقل الخضار والفواكه متجهة إلى الأسواق في مراكز المدن. وبالإضافة إلى ذلك هناك قدر من الدمار في قرى ريف حماة الجنوبي، بعضها ناجم عن قصف الطيران الحربي الروسي خلال هجوم صيف 2019، الذي استعاد فيه النظام هذه المنطقة بدعم من روسيا والمليشيات الإيرانية وحزب الله، والذي قاد للسيطرة على ريف إدلب الشمالي في خان شيخون، معرة النعمان، سراقب، وهنا تبدو القرى شبه مهجورة، ولم يعد أهلها بعد من المخيمات، بسبب القدر الكبير من الدمار الذي يتواصل في قرى ريف حلب، التي شهدت معارك عنيفة في خان طومان، خان السبل، وصولاً إلى كراج الراموسة الواقع خارج المدينة.

اختفاء المظاهر العسكرية

هناك عدة ملاحظات يتوقف أمامها المسافر بين دمشق وحلب. أولاها هي أن المظاهر العسكرية والقوات التي كانت تطوق العاصمة، وتنتشر على الطرق بين المدن لم تعد موجودة نهائياً. والثانية هي حالة الأمان على الطرقات، نهاراً وليلاً، إذ ليس هناك ما يبعث على الخوف من وجود حوادث أمنية. وقد تعمدت في طريق العودة من حلب أن أعود بسيارة الأجرة بمفردي في منتصف الليل، ووصلت دمشق فجراً، ولم ألاحظ ما هو غير طبيعي في رحلتي، وكان الطريق يشهد حركة سير في الاتجاهين. الثالثة هي أن المواصلات عن طريق الباص والتاكسي باتت مؤمنة بأسعار متاحة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows