
لا تذهب إلى قصّتي الأميركي الكيني الأصل، باراك حسين أوباما، الذي صار رئيس الولايات المتحدة، والبريطاني الهندي الأصل، ريشي سوناك، وقد صار رئيس وزراء بريطانيا، وأمثال لهما غير قليلين، في البلدين، لتُشابهَ بينهما وبين قصة الأوغندي الهندي المسلم، الأميركي، زهران ممداني (33 عاماً)، الذي أحرز، قبل أيام، ترشيح الحزب الديمقراطي الذي ينتسب إليه لينافس على رئاسة بلدية نيويورك في انتخابات نوفمبر المقبل. ... ببساطةٍ، لأنه لن يكون كافياً لحسم هذه المُشابهة أن منابتهم البعيدة، من أسر مهاجرة من عرقياتٍ مختلفة، من أفريقيا وآسيا، باعتبار حالهما هذا مشتركاً جامعاً، لم تمْنع نجاحهما في الإفادة مما تتيحها البيئات الديمقراطية من فرص الصعود السياسي والاجتماعي. لن يكون كافيا، لأن أوباما وسوناك (ويمكن إضافة غيرهما) اتّسقا مع النظام السياسي في كل من أميركا وبريطانيا وأعرافه وتقاليده، ولم يشتبكا معه بأي جنوحٍ إلى مغايرةٍ أو اختلاف، فثقافتهما ومرجعياتهما من الوعاء نفسه، الفوقي، الإمبريالي، الذي يؤطّر عمل البنيتين المؤسّستين الحاكمتين في البلدين، فلم تغطّ البشرة السوداء لباراك أوباما على شناعة خياراته الداعمة للمطالب الإسرائيلية، ولا على اندراج سياساته الداخلية مع ما يعاكس المنظومة الكبرى العامّة، وإنْ ليس بتطرّف، وإنْ مع محمولاتٍ اجتماعيةٍ وخطابٍ أخلاقيٍّ محموديْن. كما أن ريشي سوناك، للتذكير، ناوأ المهاجرين بتشدّدٍ معلن، وناصره اللوبي الصهيوني في المملكة المتحدة، لما أقام عليها من مواقف إسرائيليةٍ مشهودة.
يختلف زهران ممداني تماماً، فيبدو انشقاقياً، ليس فقط بالسمت الاشتراكي الديمقراطي الذي يُعلنه صفةً فيه داخل الحزب الديمقراطي الذي انتزع منه بطاقة الترشّح لانتخابات رئاسة بلدية نيويورك، بل أيضاً بصوته العالي ضد إسرائيل وجرائمها في غزّة، وضد "السيستم" الذي تنتظم في إهابه المواضعات السياسية التقليدية الأميركية. وإذ يُعزى الترشّح الذي ناله إلى دعم شخصياتٍ قوية في الحزب، يهودية وغير يهودية، مثل بيرني ساندرز (85 عاماً)، فذلك لا يلغي أن الخطاب الذي يُعلنه تتبنّاه شرائحُ وفئاتٌ عريضة في مجتمع المسلمين، من أهل الطبقة المتوسّطة، في نيوريوك، والمهاجرين الذين يتدفأون في ظلال الحزب الديمقراطي أمام موجات العنصرية المُشهَرة في الحزب الجمهوري وحواشيه. والظاهر أنها معركةٌ شرسةٌ وبالغة الأهمية في اللحظة الراهنة الخاصة التي تعبُر فيها الولايات المتحدة، يخوضها زهران ممداني، مع قوى الكراهية والتعصّب ضد المسلمين والمهاجرين، ومع أنصار إسرائيل المتطرّفين، ومع لوبيات الشركات الكبرى، وأصحاب النزوع المتمادي في خياراتٍ رأسماليةٍ لا تقيم اعتباراً للطبقة الوسطى والفقراء، سيما أنه يوازي بين طرحه الأخلاقي ومنطوقه الاجتماعي، عندما يقول، مثلاً، بخفض تكاليف المعيشة المرتفعة في المدينة، وبمنع زيادات الإيجارات. ... وعندما ينعت دونالد ترامب هذا الشاب الصاعد بأنه "شيوعي مجنون مائة في المائة"، فإنه ينطق باسم المُصابين بذعرٍ واضحٍ من أن يشيع المنظور الذي يُشهره المرشّح المفاجأة، القادم من أسرة مثقفة، ومن خلطةٍ عرقيةٍ مهاجرةٍ مدهشة، فيهدّد تلك القوى وتمثيلاتِها التي آثرت شتم زهران، والتطاول عليه، برميه بتهمة دعم حركة حماس "الإرهابية"، وبالعداء للسامية، إلى آخر المتوالية المعلومة، بل وصل الأمر إلى تهديده بتفجير سيارته، وذلك كله استهدافاً من أولئك الفزعين لصوته (وظاهرته إن جاز القول)، لما يفعله شيوعُ هذا الصوت من ارتجاجٍ في بنيةٍ صلبةٍ في مجتمع نيويورك، ولما يُحدثه من إقلاقٍ كبيرٍ في منظوماتٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ ومالية نافذة.
طريفٌ أن نعرف أن صاحبنا لم يشاور بشأن ترشّحه، والده، الأكاديمي محمود ممداني، صاحب المنتوج الفكري في عدة كتب بشأن الظاهرة الاستعمارية وتمثيلاتها، وبشأن الإسلام وحضارته، ووالدته السينمائية الهندية، ميرا ناير، التي عرفنا عن رفضها قبل أعوام المشاركة في مهرجان سينمائي في إسرائيل. وبديعٌ أن نتملّى في قصة النجاح النوعية، وذات الفرادة، في شخصية هذا الشاب الشجاع، سيّما أنها تبشّر بالكثير، وأنها شديدة الاختلاف عمّا عوين في باراك أوباما وريشي سوناك وأمثالٍ لهما.

Related News

