نحن في ورطة تاريخية كبيرة
Arab
1 week ago
share

منذ يوم طوفان الأقصى، 7 أكتوبر (2023)، وما تلاه من حربٍ مدمّرةٍ على غزّة، ثم توسّع المواجهة إلى لبنان واليمن والعراق وسورية، وصولاً إلى الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، يتّضح أننا نعيش لحظة إقليمية فارقة، يُعاد فيها تشكيل موازين القوة، ويُختبر الجميع ليس بما يملكون من سلاح فقط، بل أيضاً بقدرتهم على التفكير والتكيّف وإدارة المصالح.

في هذه اللحظة، يبدو العالم العربي مكشوفاً، مرتبكاً، يتعثر في الأسئلة الصغيرة: من المخطئ ومن المصيب؟ هل كانت عملية حركة حماس بطولية أم متهوّرة؟ لا أحد يريد أن يعترف بأننا أصبحنا، جميعاً، خارج السياق الاستراتيجي.

إسرائيل دولة مأزومة داخليّاً، تعاني من انقساماتٍ حادّةٍ وصعود تياراتٍ دينية متطرّفة، لكنّها تُظهر قدرة مذهلة على التفكير الاستراتيجي. قرّرت مبكّراً أن الردع التقليدي لم يعد كافياً، فأعادت تعريف الردع نفسه: اختراق أمني مدعوم بتفوّق تكنولوجي وذكاء اصطناعي، وسيطرة سيبرانية، وقدرة إعلامية على تحطيم الخصم نفسيّاً واجتماعيّاً. لم يعد الردع يعني تفجير منشأة أو إسقاط طائرة، بل الوصول إلى عقل الخصم، وتحطيم قدرته على المبادرة، وزرع الشك والانقسام في داخله.

نما قطاع التكنولوجيا العالية في إسرائيل بشكل كبير، ليشكّل أكثر من 18% من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 50% من صادراتها الصناعية. ولم يعد هذا مجرّد قطاع اقتصادي، بل أصبح العمود الفقري للمنظومة الأمنية. أدوات مثل "بيغاسوس"، ومنظومات الحرب الإلكترونية، تكشف تحوّلاً نوعيّاً في الاستراتيجية الإسرائيلية التي تدمج الخوارزمية بالسلاح، والصورة بالإقناع، والضربة العسكرية بالتفكيك المجتمعي، ضمن ما بات يُعرف بحروب الجيل الخامس، حيث الحدود بين الإعلام والسلاح والاستخبارات أصبحت غير مرئية.

في المقابل، لا تزال معظم الأجهزة الأمنية العربية تُستخدم لضبط الداخل، لا لمواجهة التهديدات، فهي تلاحق النشطاء والمعارضين، وتضبط الفضاء العام، وتُخضع المجتمع للمراقبة. ورغم امتلاكها إمكانات ضخمة في أدوات التنصت والتجسّس، إلا أنها فشلت في منع الاختراقات الإسرائيلية المتكرّرة. باتت مجتمعات عربية كثيرة اليوم مخترقة حتى النخاع، من النخب إلى البنى المؤسّسية، بينما أجهزة الأمن مشغولة بإحصاء المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.

ليست هذه المقارنة فقط بين أدوات أمنية، بل بين فلسفتين في بناء الدولة: دولة تفكر بالأمن باعتباره امتداداً للعقل الاستراتيجي، وأخرى تعتبره مجرّد وسيلة للضبط والسيطرة. في الأولى، تعمل الأجهزة ضمن منظومة مؤسّساتية لتحليل المخاطر وإدارة التهديدات المتغيرة، وفي الثانية، تتحوّل إلى جزر معزولة تنحصر وظيفتها في حماية النظام من مجتمعه، لا العكس.

حتى إيران، التي تواجه أزمات داخلية وضغوطاً هائلة، نجحت، رغم ذلك كله، في تطوير نموذج صناعي - عسكري مرتبط بالبحث العلمي، وأنتجت سردية قومية تحمي مصالحها. قد نختلف معها سياسيّاً، لكن لا يمكن إنكار وجود مشروع، واستراتيجية، ومرونة تكتيكية تسمح لها بالتأثير الإقليمي، رغم الحصار والعقوبات والانقسام الداخلي.

على الجهة المقابلة، يبدو الفراغ الاستراتيجي العربي أكبر من أن يُخفى. لا نملك مشروعاً قومياً أو إقليميّاً متماسكاً، ولا سردية جامعة، ولا أدوات فعل مؤثرة. نعيش في حالةٍ من التشتت، فيما يُعاد تشكيل المنطقة من حولنا بقوى تمتلك خيالاً سياسيّاً، وأدوات علمية، وموارد بشرية مدرّبة.

أشار العالم السياسي كارل دويتش إلى أنّ قوة النظام لا تُقاس بموارده فقط، بل أيضاً بقدرته على "استيعاب المعلومات، ومعالجتها، واتخاذ قراراتٍ فعّالة، والتعلّم الذاتي من الأخطاء". وهو ما سمّاه لاحقاً "الدولة المتعلّمة"، أي الدولة التي تمتلك حساسية عالية تجاه المتغيرات، وتستجيب لها بسرعة، دون الوقوع في الإنكار أو الجمود. هذه الدولة تقرأ الإشارات، وتفهم السياقات، وتبني مؤسساتها بناءً على المعرفة التراكمية. أما في العالم العربي، فما نزال نعيش في حالة من إعادة إنتاج الفشل، ورفض المراجعة، وتقديس الثوابت التي لم تثبت جدواها.

لسنا فقط خارج معادلة الردع، بل خارج التاريخ نفسه. نستنسخ الماضي، ونعيد إنتاج الانقسام، بينما تتحوّل الحرب في المنطقة إلى معادلة تكنولوجية واستخباراتية وقيمية. لم يعد يكفي أن نغضب أو نحتج، بل أن نبدأ بإعادة تعريف الدولة، والأمن، والمصلحة، والمعرفة.

نحن في ورطة تاريخية كبيرة، ولا خيار أمامنا إلا أن نبدأ بإنتاج عقل عربي جديد، يفهم قواعد القرن الحادي والعشرين، ويتقن أدواته، ويخرج من كهف الانتظار والتردّد، نحو الفعل والتفكير الجادّ والتخطيط العميق.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows