الوشم، مرآةً لتحولات الجسد العربي
Arab
1 week ago
share

ماضياً، كان الوشم علامة غريبة على الجسد يُنظر إليها بريبة. وقد ارتبطت هذه العلامة بالتمرّد أو الانحراف أو الانتماء إلى طبقة اجتماعية أو إلى جماعية مغلقة أو مهمّشة. وبقدر ما مثّل رمزاً للتمايز أو الطقس أو العادة أو الطبقة، أُقصي من الثقافة الرسمية، وتحوّل إلى ما يشبه "الهامش الجسدي".

حاضراً، تشهد المجتمعات العالمية تحوّلاً عميقاً في دلالات الكتابة على الجلد البشري: من الوصمة إلى اللغة، ومن الخروج عن الجماعة إلى البحث عن الذات عبر الجلد.

يقدم كتاب "الجسد خطاباً" (دار سيغلو XXI، مدريد، 2025) للكاتب الإسباني بابلو ثيريثو، مساهمة فكرية بارزة في إعادة التفكير في معنى الوشم داخل مجتمعات ما بعد الحداثة. ليس بوصفه مجرد زينة فحسب، بل بوصفه علامة حضارية، تفتح على أسئلة وجودية: من نحن؟ إلى من ننتمي؟ كيف نؤرخ أنفسنا على أجسادنا؟ وما الذي نقوله حين نكتب على جلودنا رموزاً لا تُمحى بسهولة؟

يُقدم ثيريثو عمله بأسلوب يمزج بين التأمّل الفلسفي والسرد الثقافي، حيث ينطلق من فرضية جريئة: أن فهم الوشم يعني فهم العالم الذي نعيش فيه وتحولات التقنية والاجتماعية والثقافية. فالوشم، حسب تعبيره، "يشرح زمننا"، لأنه تقاطع بين الفردانية المتطرفة والحنين إلى الجماعة، بين استلاب الجسد في خطاب السوق، ومحاولة استعادته في فعل رمزي صامت وبليغ في آن واحد.

فهم الوشم يعني فهم العالم الذي نعيش فيه بكل تحولاته

في هذا السياق، يتساءل الكاتب: هل الوشم فعلٌ نرجسيّ؟ أم هو صيغة للتواصل مع ذاكرة جمعية تُقاوم التلاشي؟ هل هو خضوع لنظرة الآخر، أم استرداد للسلطة على الجسد؟ هل هو استجابة للنيوليبرالية التي تطلب من الفرد تسويق نفسه؟ أم مقاومة لها عبر خلق سردية جلدية شخصية مكتفية؟

يثمّن مؤلف العمل الطابع التعددي لمفهوم الكتابة على الجلد (الوشم)، لا باعتباره موضة، بل بوصفه مسرحاً رمزياً مفتوحاً على الاحتمالات كلها: الدين، السياسة، الجمال، الحزن، الهوية، الحب، القطيعة. وهنا تكمن أهمية تناول الموضوع: إعادة النظر في ما يبدو بسيطاً أو مكرراً أو محايداً، لنجده مشحوناً بتوترات العصر كلها.

إذا كان العالم الغربي قد بدأ منذ عقود عملية إعادة قراءة معنى الوشم، فإنَّ السياق العربي الإسلامي ما زال يتأرجح بين الموروث الديني الرافض وواقعٍ اجتماعي يعيد الوشم إلى السطح، ولو بأشكال جديدة وخجولة.

لقد ارتبط الوشم في الفقه الإسلامي بحديث "لعن الله الواشمة والمستوشمة"، واعتُبر تغييراً لخلق الله ومساساً بنقاء الجسد. هذه الرؤية، مع تعقيداتها، رسّخت موقفاً سلبياً تجاه الوشم داخل الثقافة الإسلامية، رغم استمراره في البوادي والمجتمعات الأمازيغية والصحراوية، حيث احتفظ بدوره الجمالي والرمزي. ففي مناطق من شمال أفريقيا والجزيرة العربية، وُشمت الأجساد لأسباب تراوح بين الزينة والوقاية الروحية أو تحديد الهوية القبلية أو الاجتماعية.

في العقود الأخيرة، ومع الانفتاح التكنولوجي والثقافي، عاد الوشم إلى الفضاء العربي، لا بوصفه إرثاً قبلياً، بل خياراً فردياً. فنجد شباناً وشاباتٍ يشمون أجسادهم برموز أو تواريخ أو أسماء. وهو ما يعيدنا إلى أسئلة الكاتب الإسباني: هل يعبّر هؤلاء عن تمرّد؟ أم مجرد رغبة في ترك أثر؟ أم أنهم سئموا القيود التي تكبل أجسادهن، وأرادوا لها أن تتكلم؟

هل هو استجابة للنيوليبرالية التي تطلب من الفرد تسويق نفسه؟

أليس في وشم قصيدة على اليد محاولة للوقوف على الطلل العربي لجسدٍ ولد حراً، لكنّه قُيد دينياً واجتماعياً وسياسياً ونفسياً؟ ألا يمكن أن تكون الكتابة على الجلد أفقاً لجسدٍ جديد يسعى لأن يقول: أنا هنا، وهذه هي حكايتي؟

في هذا السياق العربي الذي لا يزال يضع حدوداً صارمة للتعبير الجسدي، يمكن فهم الوشم بأنه تحدٍّ لهذه الهيمنة الثقافية التي غالباً ما تحصر الجسد في إطار ديني واجتماعي معين. ومن هنا، يمكن قراءة الوشم في كونه كتابة على الجلد تعيد تشكيل العلاقة بين الفرد وجسده، وتعبّر عن رغبة في فتح مساحات جديدة للحرية الشخصية والهوية خارج المألوف.

ما يلفت الانتباه أن المكتبة العربية لا تزال تفتقر إلى أعمال فكرية أو فنية أو فلسفية جادة تتناول موضوع الوشم من زوايا فلسفية أو جمالية أو ثقافية. فقد بقي الوشم في الأدب العربي هامشياً، وفي الفن التشكيلي نادراً، وفي الخطاب الديني "مغلقاً". ربما حان الوقت لإعادة قراءة هذه الكتابة الجسدية بوصفها مرآة لتحوّلات الجسد العربي، بين المقدّس والمحايد، بين الزينة والمعنى، بين الذات والجماعة.

وكما يختتم ثيريثو كتابه بدعوة إلى الاستمرار في التفكير، فإننا مدعوون اليوم في العالم العربي إلى التفكير: في تاريخنا الجسدي، في رموزنا، في علاقتنا بالجلد والذاكرة واللغة التي نكتب فيها، وفي الطريقة التي نحكي بها ذواتنا وأجسادنا، حتى لو بحبر لا يُمحى، وعلى خريطة جلودنا.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows