بين الخوارزميات والبطالة: هل بدأ الانقراض الوظيفي؟
Arab
1 week ago
share

قبل عشر سنوات فقط، كان الحديث عن قدرة الذكاء الاصطناعي على تهديد الوظائف المكتبية يُعتبر ضربًا من المبالغة أو الخيال العلمي. لم يكن أحد يتخيل أن الأنظمة الذكية التي بدأت في المساعدة على تصحيح الأخطاء اللغوية أو تصنيف الصور ستصبح اليوم قادرة على كتابة النصوص، وتحليل البيانات، وإعداد تقارير مالية، وحتى اتخاذ قرارات إدارية معقدة. 

الآن، باتت الحقيقة واضحة: الذكاء الاصطناعي لم يأتِ فقط ليكمل عمل البشر، بل في كثير من الأحيان جاء ليحل محلهم. ومع كل تطوّر تقني جديد، يتقلص هامش الأمان الوظيفي، وتتسع رقعة القلق من موجة "انقراض وظيفي" قد لا ترحم.

التصريحات لم تعد خجولة

الرئيس التنفيذي لشركة "فورد" جيم فارلي لم يتردد في القول إن "الذكاء الاصطناعي سيستبدل نصف الموظفين أصحاب الياقات البيضاء في الولايات المتحدة". عبارة كهذه لم تأتِ على لسان باحث مستقل أو محلل مستقبلي، بل على لسان قائد واحدة من أكبر شركات العالم، ما يمنحها ثقلًا وواقعية مقلقة.

ولمن لا يعرف، "أصحاب الياقات البيضاء" هم الموظفون العاملون في المكاتب ممن يعتمدون على المعرفة والتحليل والقرارات الذهنية: محاسبون، محررون، إداريون، محللون ماليون، وغيرهم. هؤلاء لطالما اعتُبروا في مأمن من "شبح الأتمتة"،الذي كان يطارد العمال اليدويين وموظفي خطوط الإنتاج، لكن الواقع تغيّر.

في المؤسسات المالية، بدأت نُذر التغيير تظهر أيضًا. ماريان ليك، إحدى القيادات التنفيذية في بنك "جي بي مورغان"، توقعت أن يُستغنى عن نحو 10% من موظفي العمليات بفضل الأنظمة الذكية التي باتت تقوم بالمهام بشكل أسرع وأكثر دقة من البشر. أما في قطاع التكنولوجيا، فالمعادلة باتت أكثر وضوحًا. رئيس شركة "أمازون" أعلن صراحة أن اعتماد الشركة على الذكاء الاصطناعي في تصاعد مستمر، وأن الحاجة إلى فرق عمل كبيرة لأداء مهام معقدة بدأت تتضاءل. المهام التي كانت تتطلب جهد فرق من المحللين والمبرمجين تُنجز اليوم من قبل خوارزميات لا تنام ولا تتذمّر.

بداية تسونامي وظيفي

تلوح في الأفق ملامح أزمة عميقة تهدد مستقبل الوظائف المبتدئة، خاصة في ظل التوسع السريع في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. فهذه الفئة من الوظائف، التي تشكّل بوابة الدخول الأساسية إلى سوق العمل أمام الشباب، باتت مهددة بالاختفاء التدريجي خلال السنوات القليلة المقبلة. ملايين من الخريجين الجدد قد يصطدمون بواقع قاتم، حيث تقلّ الفرص المتاحة، وتُفضّل الشركات الاعتماد على أنظمة ذكية لا تطالب بإجازات أو زيادات سنوية، وتعمل بكفاءة ودقة على مدار الساعة.

وفي حال استمر هذا الاتجاه من دون تدخل فعّال، فقد تشهد بعض الدول ارتفاعًا حادًا في معدلات البطالة، يُقارب أو حتى يتجاوز أسوأ ما عرفته خلال الأزمات الاقتصادية الكبرى. المسألة هنا لا تقتصر على الأرقام فقط، بل تنذر بتحولات هيكلية عميقة في سوق العمل، حيث تتآكل قطاعات كاملة من الداخل، في الوقت الذي تظهر فيه قطاعات جديدة ما زالت ضبابية وغير مهيأة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل.

هل هناك وظائف بديلة؟

دائمًا ما تُطرح هذه النقطة باعتبارها محاولة لتخفيف القلق: "صحيح أن الذكاء الاصطناعي سيقضي على بعض الوظائف، لكنه سيخلق وظائف جديدة". هذه المقولة صحيحة من حيث المبدأ، لكن ما يغيب عن الأذهان هو أن الوظائف الجديدة غالبًا ما تتطلب مهارات عالية، وتدريبًا متخصصًا، ومؤهلات لا تتوفر بسهولة، خاصة في الدول النامية أو بين الفئات الأقل تعليمًا.
مثلًا، حين يُستغنى عن 1000 مساعد إداري في شركة، وتُستحدث 100 وظيفة لمهندسي بيانات أو مبرمجين مختصين بالذكاء الاصطناعي، فهذا لا يعني أن الـ1000 موظف السابقين قادرون تلقائيًا على شغل هذه المناصب الجديدة. وهنا تظهر فجوة معرفية واجتماعية عميقة، قد تتحول إلى مشكلة سياسية وأمنية إذا لم تُعالج بالسرعة الكافية.

إعادة التفكير في معنى "العمل"

مع تعاظم تأثير الذكاء الاصطناعي، بدأ البعض يطرح تساؤلات جذرية: ماذا لو لم يعد العمل هو المصدر الرئيسي للدخل؟ هل يجب على الدول التفكير في حلول مثل "الدخل الأساسي الشامل"، الذي يضمن للناس حدًا أدنى من الدخل من دون الحاجة لوظيفة؟ وهل آن الأوان لإعادة هيكلة أنظمة التعليم، بحيث تركز على المهارات التحليلية، والذكاء العاطفي، والقدرة على التكيّف، بدلًا من التلقين والحفظ؟ لا توجد إجابات سهلة، لكن المؤكد أن العالم على أعتاب تغيّر جذري في علاقة الإنسان بالآلة، وفي تعريف "الموظف"، و"الإنتاج"، و"القيمة".

السباق لم يبدأ الآن.. بل تأخرنا!

ما يزيد الوضع خطورة هو أن بعض الدول بدأت بالفعل تتخذ خطوات استباقية لمواكبة التغيير: كوريا الجنوبية، فنلندا، الصين.. كلها تستثمر بشكل مكثف في تدريب القوى العاملة على مهارات المستقبل، وفي تطوير سياسات عمل مرنة، وفي دعم الصناعات الرقمية. أما في منطقتنا، فما زلنا نناقش ما إذا كان الذكاء الاصطناعي "فرصة أم تهديد"، بينما تجري التكنولوجيا أمام أعيننا.

والذكاء الاصطناعي ليس خطرًا بذاته، بل هو انعكاس لقدرتنا - أو فشلنا - على التأقلم. السؤال الحقيقي ليس "هل سيأخذ وظائفنا؟"، بل هل نحن مستعدون لعصر مختلف بالكامل؟ من لا يُطوّر مهاراته، قد يجد نفسه بلا دور. ومن لا يُعِد النظر في سياساته، فقد يجد نفسه بلا اقتصاد. وفي هذا السباق، لا مكان للمترددين.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows