أستطيع أن أقول الآن إنّ شهرة هذا الروائي الراحل عبد الرحمن منيف لم تأتِ عبثًا. له طرقه الخاصة جدًّا في انتزاع القارئ من الجو العام للرواية، ثم الإلقاء به، وبانتباهه عرض الحائط المقابل. كأن يباغتك مثلاً في خضم حوار بين الشخصيات بقوله: هل قامرت بحياتك وندمت؟.
هنا، يمكن لك أن تحدّق في السقف وتكمل يومك راجيًا أن تتخلص من السؤال ولو بمضغه، أو لك أن تتحلى ببعض الجبن لتقرّ أنك، ولو لمرّة واحدة على الأقل، وضعت أوراقك على الطاولة لتقامر بحياتك؛ سواء خضت اللعبة، أو سحبت يدك قبل أن تبدأ!
بصيغة أخرى أو بصيغتي، هل سبق أن قامرت بحياتك من أجل الحبّ وندمت؟ ألا يقولون إنّ الحبّ يدفعك إلى ارتكاب أشياء غبية؟ ألن يكون ذلك في النهاية هو الدافع الوحيد ليجازف أحدهم بحياته؟
لست أدري صراحة من أين يتسلّل إليّ هذا الفضول، لكن لا شكَّ أنّ هناك مكانًا مفتوحًا يسمح له بذلك إذن، ثم للصيف طبيعته التي تجبرني على الشعور بغزارة تجاه كلّ شيء تقريبًا. أقول ربما كلّ قصص الحبّ تبدأ في الصيف، أو تبلغ ذروتها فيه. وأقول لنفسي، ربما هذا نوع من أنواع الجزية التي تُلزمك بها القراءة، عليّ إذن أن أتحمّل هذه الأسئلة... الروايات أيضًا قد تكون ضيفًا ثقيلاً أحيانًا، لكنك في نهاية المطاف، مُجبر على الترحيب بها وبنفقاتها القادمة (التفكير المفرط) من دون تذمر.
يقول والدي إنني ما إن أجد الشخص المناسب، حتى يخف ثقل الحياة عن كاهلي. سأتقاسم الوزن معه إذن... وحينها، سأغدو جميلة كوطن محرر
لا أملك من قصص الحبّ الحقيقية سوى ما ترويه لي صديقاتي عن بعض المعارف، أو ما ألتقطه من الأدب الكلاسيكي النظيف، أو من صوري الشاعرية التي أُسقطها عليه من باب التطفّل، وإن صدقت القول فهو من باب الإصرار على تمديد عمر الشعر داخلي، لأقنع نفسي أن شيئًا منه ما يزال حيًّا، وأنه لم يغادرني بالكامل. يذكرني حالي هذا بما حدث لرضوى عاشور مع الشعر، ومع أغلب من عبرهم الشعر. تقول إنها كانت تكتب الشعر أيام الجامعة، إلى أن سمعت مريد البرغوثي يلقي قصيدة لأصحابه على سلم الجامعة، فوقعت في حبه آنذاك، وقررت أن تتوقف عن كتابة الشعر، لأنها كما قالت، تظن أن الشعر أحق بأهله. لكن الشعر، لا يتنازل عن الشعراء بهذه الطواعية، هو ببساطة شيء يحدث من تلقاء نفسه ولا يمكن اختلاقه. ربما كان قد غادرها بالفعل، وربما اختار أن ينام قليلاً إلى أن يستيقظ مع ابنها تميم.
"يا رضوى... إني والقمر والنجمات نسير إليكِ الليلة". أعرف شيئًا عن الحب، تعلمته من مريد البرغوثي.
قبل نحو شهر، كنت أغرق في تحضيرات مشروع تخرجي، أقاوم ضغط دمي الذي صار يهبط لسبب أو بدونه، وأحاول عبثًا اقتناص بعض ساعات النوم في الصباح. كان زملائي حينها يقولون إن مناقشتي ستكون الأفضل، قبل أن يقرؤوا شيئًا مما أعددت أصلًا. ربما لأنهم اعتادوا أن كل شيء عندي يتحول إلى مناظرة، وربما لأنني كنت سأقلبها لواحدة فعلاً. وظللت أمازح صديقاتي بترديد الجملة التي قالها مريد بعدما ناقشت رضوى رسالتها للماجستير: "عندما جلست تناقش اللجنة لتحصل على درجة الماجستير، أشفقنا على اللجنة!". مديح غير هذا لن يكفيني، إنها جملة تدغدغ القلب، أو مرة أخرى، إنه الصيف ومشاعره الغزيرة.
"من إمتى كانت رام الله من بلاد برّة؟ يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني، من يعترض ع المحبّة لما ربي يريد؟"، تميم البرغوثي عن معارضة أمه.
لكن رضوى كانت قد وضعت يديها معًا بالفعل، لتقامر بحياتها لأجل من تحب. هي كما وصفها مريد تمامًا "تعرف ما تريد وتذهب إليه مفتوحة العينين". اعترض أهلها في البداية على زواجها من مريد طبعًا، وهذا ما لا يلومهم عليه مريد أبدًا، كانت رضوى البنت الوحيدة لأسرتها، ولم يكن مريد رجلاً عاديًّا عندهم. كما يقول عن نفسه: "مصيره الشخصي معلّق بمصير القضية الفلسطينية". كان من الطبيعي أن يخافوا، وكان من الطبيعي أيضًا أن تعاند، وقررت أن تقامر بحياتها لأجله، أو على الأقل، قامرت بحياتها لتنصف قلبها. لم يطل هذا التوتر كثيرًا، فسرعان ما أحبت العائلة مريد، وتزوج بمن قال إن ضحكتها صارت بيته في ظهيرة 22 يوليو/ تموز 1970.
-"أنت جميلة كوطن محرر.. وأنا متعب كوطن محتل"
يقول والدي إنني ما إن أجد الشخص المناسب، حتى يخف ثقل الحياة عن كاهلي. سأتقاسم الوزن معه إذن... وحينها، سأغدو جميلة كوطن محرر. ولن أسحب يدي!
Related News
