إنها تمطر على إسطنبول. إلى هذا المطر هربت من بيروت قبل حلول الصيف فزعة من فكرة تكرار ما عشته الصيف الماضي من حرارة ورطوبة ولزوجة لا تطاق. إنها تمطر. وأنا، بتّ بعد أن عبرت خط منتصف العمر، أحب المطر. أحب منه ما يصادف مزاج روحي، في الفجر، بعد ليلة لم يستدعني فيها النوم إلى غاباته المجهولة. أقف في العتمة أتساقط مع غزارة هطوله في بقعة ضوء مصباح الشارع.
سكون الكون وجماله تحت المطر الخفيف يرسلان الدموع إلى عينيّ. لا أعرف السبب. كأن الروح تتذكر، تعيش شيئًا لا يستطيع العقل فهمه. العقل السخيف. الصغير. سجين الجسد الخائن. كأن الروح تتعالى على هذا الجسد المسكين الذي تعرف حدوده، فلا تشاركه عوالمها.
حزن الفجر يشبه الطلّ الخفيف الهادئ. يغسل برفق ما اتسخ وينعش الروح. يعدّها لمواجهة النهار بصخبه وناسه وأخباره وأصواته المرتفعة التي تختلف بين مدينة وأخرى. هو كما النفس الذي تأخذه بعمق وتملأ به رئتيك قبل أن تنطلق إلى العالم الخارجي.
ولإسطنبول، أصواتها الخاصة كما لكل مدينة.
في الفجر، في المدينة القديمة، يختلط ترتيل المآذن الكثيرة بنعيق الغربان المستيقظة للتو، بحفيف أوراق الشجر الذي تنفخه رياح قالوا في النشرة الجوية أنها ستكون سريعة في الصباح. أما النوارس فأصواتها صباحًا تنبئك بأنك على مقربة من المياه، ليست أي مياه، بل البوسفور العظيم. نقطة اللقاء والافتراق بين يابستين، قارتين، عالمين، ما انفكا يصطرعان بغباء وعنف بشري قل نظيرهما. جغرافيًا تكاد تكون شعرًا صافيًا.
هذه الطيور التي أحببتها في أول رحلة بالباص البحري، وأطعمتها وهي ترافقنا طوال الرحلة من كعكة "السيميت" التي كانت في يدي، كرهتها في زياراتي اللاحقة.
بعيدًا عن البحر والسماء، داخل المدينة، تحطّ النوارس بكثرة في الساحات العامة القريبة من البحر، وفوق المباني. حين لا تطير النوارس بأجنحتها البيضاء والرمادية، حين تدّب على قائمتيها، يختفي كل جمالها.
طيور عادية أقرب إلى البشاعة بحركتها الثقيلة. سمينة وبليدة تتأرجح كالبطريق وهي تمشي على الرصيف بين أقدام البشر، غير خائفة، واثقة أن أحدًا لن يؤذيها، كما لو كانت لا تصلح للأكل، أو كما لو أنها تحمل الجنسية التركية!
تتقدم برأس منحنٍ، متفحصة بين قوائمها ما قد تستطيع التقاطه بمنقارها المفلطح الذي يشبه لونه لون أقدام الدجاج.
تقول في نفسك أن كل ما أو من يخرج من بيئة رسمها له الخالق وخصّه بها يصبح بشعًا. عندما لا تطير الطيور، يختفي سحرها. في الأقفاص أيضًا يختفي سحرها. عندما تمشي النوارس غير فزعة بين أقدام المشاة، يختفي سحرها.
- أنت أيضًا، أخاطب نفسي، ماذا تفعلين هنا؟ وهل هذا مكانك؟
- لم لا؟ أجيبني، أنا مجرد سائحة.
ولإثبات ذلك لنفسي، أخرج من الشقة. أمشي فأبتعد قليلاً عن "الكومباوند" الذي أسكن فيه. أسكن فيه ولا أسكن إليه. الفارق مهول بين العبارتين. لسبب ما، يستفزني المجمّع بمرافقه المصممة خصيصًا كيلا نحتاج أن نخرج منه. كما لو كان مدخله الذي يفصلنا عن الخارج هو الباب المحرم فتحه في حكايات أبو اللحية الزرقاء. أبتعد نكاية بمصمم "الكومباوند" المجهول الذي اختار بقعة بعيدة جدًا عن مركز المدينة، لرخص الأرض فيها لا شك، ويريد أن يحولها إلى سكن سياحي بامتياز يسكنه أثرياء، متكلاً على خطط تطوير أطراف إسطنبول الجارية على قدم وساق الأحياء الشعبية منذ سنوات. تاجر بحق.
خطط كهذه تفوح منها عادة رائحة التواطؤ بين تجار العقارات والمسؤولين الحكوميين.
لكن، ما دخلك؟ أزجر نفسي المهنية، المعتادة على التحقيقات الصحافية. ومع ذلك، لم أستطع منعها من محاولة استكشاف ما خلف "الكومباوند" الذي كنت أحدس أنه مثير للاهتمام.
سكون الكون وجماله تحت المطر الخفيف، يرسل الدموع إلى عينيّ. لا أعرف السبب. كأن الروح تتذكر، تعيش شيئًا لا يستطيع العقل فهمه.
ما هي إلا دقائق قليلة من المشي، حتى وجدت نفسي في منطقة سكنية شعبية تعجّ بالأكراد والنازحين السوريين وورش الخياطة الصغيرة وبعض الدكاكين.
الحي الشعبي منظم إلى حد ما هنا. فتح السوريون بعض الأفران التي تنتج الخبز الأبيض، الرغيف. يصبح الرغيف الأبيض الأليف وطنًا للسوريين النازحين إلى هنا، بدلاً من الخبز التركي الذي يحتار في هويته بين الخبز الإفرنجي وخبزنا.
هنا أيضًا أنت بين قارتين.
على مقربة من منطقة "ميرتل" الصناعية، حيث معامل النسيج الكبرى والألبسة التركية. تعوم ندف كندف الثلج في الهواء متأرجحة أينما يأخذها النسيم القوي. تذهب معه، وما إن يكفّ عن الهبوب حتى تحط على ما قد تعلق به، كالنازحين تمامًا.
كنت في الباص حين رأيتها للمرة الأولى. يومها ظننتها زهور شجرة لا أعرفها، بكّرت براعمها بالتفتح وقد ضللها الطقس المتقلب، فتطايرت بتلاتها في الهواء. نظرت إليها بشاعرية وابتسامة استحسان أرسلها إلى فمي مزاج السياحة الخفيف، إلى أن تنبهت إلى أننا في نهاية الشتاء، وهي، أي الأشجار، لم تزهر بعد!
هكذا، تساءلت مستغربة عما قد تكون، فهي ليست ندف ثلج ولا بتلات أزهار؟ ثم سألت جاري في المقعد المجاور بالإيماء، لجهلي بالتركية، فلم يفهم. وعندما فهم وحاول إجابتي، لم أفهم أنا. أشير إليه بابتسامة وتلويحة من كفي ألا يهتم. بسيطة.
أحد الركاب، رجل أربعيني، كان جالسًا بصمت محايد بالقرب منا، وإذ به يجيبني بلهجة سورية وقعت في أذني بردًا وسلامًا عربيًا: إنها نتف نسيج تكثر عادة هنا في المنطقة الصناعية التي كنا نمر بها. وإنها، عكس ما يوحي به منظرها الشاعري، تشير إلى أن هناك تلوثًا خطيرًا في الهواء في هذه المنطقة التي تعج عجًا بتلك المصانع ومستودعاتها وتجار الأقمشة بالجملة، إضافة إلى سكن عمالهم، وهو منهم.
بدا أن الرجل كان حذرًا من البوح بهويته في هذا المكان الذي يشهد تزايدًا في العداء لكل ما هو سوري خاصة، وعربي عمومًا. نظر إليه الراكب الآخر حين سمعه يتكلم العربية ثم أشاح بوجه عابس.
قال لي الرجل إنه من حلب، وإنه كان عاملاً في المهنة نفسها في بلاده قبل الثورة وقبل أن تفكك المليشيات مصانع مدينته وتنهبها. ينظر إلينا الراكب التركي غير فاهم ما نقوله، ثم يعاود النظر من شباك الباص.
أسأله إن كان مرتاحًا في إقامته وعمله هنا؟ فيهز برأسه قائلاً إنه "ماشي الحال". ثم أسأله: ألن يعود إلى بلده اليوم؟ فيبتسم ابتسامة ملتبسة، ثم ينهض واقفًا ليضغط على الزر الأحمر الذي ينبه السائق إلى أن راكبًا يريد النزول. وقبل أن ينزل، يلتفت إليّ قائلاً بوّد: انتبهي لحالك.
Related News

