
لا تبدو أزمة الوقود في محافظات الضفة الغربية مجرد نقص أو انقطاع في التوريد، بل انعكاس لأزمة أعمق تضرب البنية النقدية والاقتصادية الفلسطينية، عنوانها تكدس الشيكل ورفض البنوك استقباله من مختلف القطاعات، وخاصة محطات الوقود التي اضطر بعضها للإغلاق، إثر عامل آخر أساسي هو تحكم إسرائيل بكميّات الوقود الواردة للضفة الغربية.
وضمن الجهود لاحتواء الأزمة، أصدرت سلطة النقد الفلسطينية صباح الأربعاء، تعليمات إلى المصارف العاملة في فلسطين، تقضي برفع نسبة الإيداعات الإلكترونية لمحطات الوقود إلى 50%، من إجمالي إيداعاتها (مبيعاتها)، وذلك في إطار الجهود المبذولة للحد من فائض السيولة النقدية بالشيكل، وتعزيز استخدام وسائل الدفع الإلكتروني.
وتكشّفت الأزمة التي بدأت منذ الثالث عشر من الشهر الماضي، عقب المواجهة "الإسرائيلية-الإيرانية"، إذ قلّصت إسرائيل كميات الوقود للضفة، وأوقفت التوريد في بعض الأيام، ما أدى إلى شلل اقتصادي واسع. وما إن هدأت الأزمة حتى برزت أخرى مرتبطة برفض البنوك الفلسطينية استقبال الشيكل الإسرائيلي، العملة التي تُستخدم يوميًا لسداد أثمان الوقود. تعود جذور الأزمة إلى منتصف التسعينيات مع توقيع "بروتوكول باريس الاقتصادي" عام 1994 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
ومنذ اندلاع الحرب على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر2023، تفاقمت الأزمة إذ طفحت خزائن البنوك الفلسطينية بفائض نقدي يصل لـ 7 مليارات شيكل، رغم أن البروتوكول يسمح بتحويل 18 مليار شيكل سنويًا بواقع 4.5 مليارات كل ثلاثة أشهر؛ لتغطية حجم النقد المتراكم.
ومع رفض إسرائيل منذ بداية 2024 استقبال هذا الفائض، تكدّس الشيكل ورفضت البنوك استقباله من المواطنين والتجار، في وقتٍ يرتبط فيه توريد الوقود بشكل حصري بالجانب الإسرائيلي. ويقول أمين سر نقابة أصحاب محطات الوقود في الضفة الغربية خالد السراحنة، لـ"العربي الجديد": "إن ملامح الأزمة بدأت قبل التصعيد الإسرائيلي مع إيران بعدّة أيام، حيث تراجعت كميات الوقود تدريجيًا بنسبة 50–60%، وما زال الانخفاض مستمرًا حتى اليوم".
ويضيف السراحنة: "كنا نستقبل يوميًا نحو مليون و300 ألف لتر، أما الآن فالكمية تتراوح بين 600 و800 ألف، وسط تذبذب وغياب رقم ثابت". ورغم نفي هيئة البترول وجود تأخير في تسديد سعر المحروقات للجانب الإسرائيلي، يوضح السراحنة أن "إسرائيل لا تقبل استلام الدفعات إلا ضمن كميات وقود محددة تفرضها بشكل أحادي".
أزمة محطات الوقود
ويشير السراحنة إلى أن "محطات الوقود تدفع مسبقًا أثمانًا تفوق الكميات التي تُسلّم فعليًا، حيث إنه دفع عن إحدى محطات الوقود التابعة له مؤخرًا ثمن 50 ألف لتر، ولم يصل سوى 18 ألفًا، بينما تبقى 32 ألف لتر مستحقة ما زالت في أرصدة هيئة البترول للتوريدات القادمة".
ويلفت السراحنة إلى أن استمرار عمل بعض المحطات للآن هو "مؤقت"، ويعود إلى وجود رصيد دائن لها لدى هيئة البترول نتيجة دفع مسبق لن يصمد سوى أيّام، في المقابل هناك محطات أخرى أغلقت أبوابها نظرًا لانتهاء رصيدها الدائن وخاصّة المحطات الصغيرة، لأن تقليص كمية الوقود ينعكس على جميع المحطات بشكل متفاوت حسب حجم الطلب لدى كل محطة.
وتتفاقم الأزمة نتيجة رفض البنوك استقبال الإيداعات النقدية بالشيكل، بحسب السراحنة، الذي يقول: "ندفع لهيئة البترول عبر البنوك التي باتت لا تقبل التعامل النقدي، فكيف نُسدّد قيمة الوقود؟". فقد أغلقت 230 محطة أبوابها يومي الجمعة والسبت الماضيين، فيما أغلقت عشرات المحطات أبوابها بداية الأسبوع، وتعمل أخرى لساعات محدودة بسبب استلام نصف كمية الوقود أو أقل.
وحاولت النقابة اقتراح دفع 30% من المستحقات إلكترونيًا و70% نقدًا، لكن البنوك رفضت، وسلطة النقد لم تُلزمها في حينها، إلى أن تم الاتفاق صباح الأربعاء على نسبة 50%.
ويؤكد السراحنة أن الأزمة مرشحة للتفاقم، إذ لا يمكن استلام الوقود دون تسديد فوري، ولا يوجد مخزون استراتيجي يكفي الحد الأدنى. ويكشف السراحنة أن البنوك تطالب المحطات بتوفير مدفوعاتها بالدولار أو الدينار إذا أرادت الدفع نقدًا، لكن تحويل الشيكل إلى عملات أجنبية بات أمرًا صعبًا، لا سيما مع امتناع محال الصرافة عن التحويل بسبب فائض الشيكل وتراجع قيمته.
ويقول السراحنة: "اضطر بعض أصحاب المحطات للتحويل عبر السوق السوداء، ما سبب لهم خسائر بمئات وحتى آلاف الشواكل". ويصف السراحنة الوضع بأنه غير مسبوق وينذر بانهيار النظام المصرفي وتفشي السوق السوداء. أما عن الحل، فيراه السراحنة بيد المستوى السياسي، عبر الضغط على إسرائيل لاستلام فائض الشيكل حتى تتمكن المحطات من السداد. وبحسب بروتوكول باريس، لا يمكن حل أزمة فائض الشيكل إلا بقرار من بنك إسرائيل المركزي ووزارة المالية.
ويقول المستشار السابق لوزارة المالية الفلسطينية، نبهان عثمان لـ"العربي الجديد": "إن الاحتلال يتعمّد عرقلة التحويلات النقدية لأهداف سياسية"، مشيرًا إلى أن الحل إما بالضغط الدولي أو باستثمار الفائض محليًا. ويُرجع عثمان غياب استثمار الفائض إلى غياب السياسات الاقتصادية الفعالة، موضحًا أن السلطة لم تضع منذ نشأتها استراتيجية لمواجهة الأزمات.
ويؤكد عثمان أن تراجع المؤشرات وتراكم الدين نتيجته سوء الإدارة وغياب الخطط التقشفية، مشددا على أن على سلطة النقد توجيه البنوك للاستثمار في القطاعات الإنتاجية لا سيما الزراعية والصناعية، بدلًا من تجميد السيولة، والحد من الاستثمارات الاستهلاكية الكبيرة مثل مراكز التسوق الكبيرة التي تفتتح في مراكز المدن، لصالح مشاريع تنموية تُنشّط الاقتصاد وتخلق فرص عمل. ما دون ذلك، سيؤدي إلى "سكون العملة" وفق عثمان، الذي يرى أن "استمرار تجميد الفائض سيؤدي إلى انكماش اقتصادي حاد، ولن تعود العملة قادرة على التحفيز أو التدوير داخل السوق".
ويبدو ذلك واضحًا من تأثر قطاع المحروقات باعتباره من أبرز القطاعات التجارية اليومية في الحركة النقدية. ويوضح عثمان بأن المطلوب ليس فقط الضغط السياسي، بل مراجعة بنود بروتوكول باريس والعمل على تعديله. ولا يُحمّل عثمان البنوك مسؤولية الأزمة، فهي مجرد وسيط للتخزين والتحويل بلا صلاحيات. ويحمّل سلطة النقد المسؤولية لعدم تحركها مبكرًا.
حلول للأزمة
الحل كما يطرحه عثمان، يبدأ بإطلاق برامج قروض ميسّرة بعملة الشيكل، وتمويل مشاريع إنتاجية تخلق حركة في السوق. ويشدد عثمان على أن "الأولوية يجب أن تكون لدعم القطاعات الإنتاجية، وأن تتجه البنوك إلى إطلاق مبادرات جادة لتدوير السيولة بدلًا من تجميدها". ويرى عثمان أن اعتماد طرح الدفع الإلكتروني من قبل سلطة النقد حلّا، لا يُعد واقعيًا في ظل غياب البنية التحتية، متسائلًا: "كيف نعزز الدفع الإلكتروني والبنك لا يقبل الشيكل؟".
ويشدد عثمان على أن على السلطة دراسة مصدر الفائض، لأنه قد يعود إلى تهريب أموال وبضائع، أو ضعف الصادرات، أو تدفقات مالية مفاجئة. ويرى عثمان أن مواطنين أودعوا أموالهم بالشيكل خوفًا من الاضطرابات، ما حول العملة من أداة تداول إلى عبء. ويؤكد عثمان أن الأزمة سياسية أكثر منها مالية، لأن إسرائيل ترفض استقبال العملة، رغم أن الفائض (2.5 مليار دولار) لا يشكل عبئًا على اقتصادها.
ويعقب الخبير الاقتصادي أيهم أبو غوش في حديثه لـ"العربي الجديد" بأن 50% من السيولة النقدية التي تصل إلى البنوك الفلسطينية تأتي من أربعة قطاعات رئيسية هي: المحروقات، والدخان، والعقارات، والذهب، موضحًا أن هذه القطاعات تشهد نشاطًا غير طبيعي، وغالبًا ما تكون مدخلًا لضخ كميات كبيرة من الشيكل من خارج السوق الفلسطيني، أي من قطاعات مختلفة في السوق الإسرائيلي نتيجة التداخل بين السوقين.
ويُفسّر أبو غوش سبب ذلك بقوله: "في قطاعي المحروقات والدخان، هناك فوارق سعرية واضحة بين الضفة الغربية والسوق الإسرائيلي، حيث تُعد الأسعار الفلسطينية أقل نسبيًا. هذا يشجّع شركات وأفراد من السوق الإسرائيلية على التوجه إلى الضفة لشراء كميات ضخمة نقدًا، ما يسهم في إدخال كميات من الشيكل يصعب تدويرها لاحقًا".
وبحسب أبو غوش، فإن "الدخان المهرب القادم عبر الأردن، يتم تحضير سعره بالدولار أو الدينار من السوق الفلسطينية ويتم شراؤه بالخارج، ويُعاد بيعه في السوق المحلي بالشيكل، وهو ما يُعيد الكتلة النقدية مجددًا إلى الداخل الفلسطيني ويُفاقم الفائض".
أما في ما يخص العقارات والذهب، فيرى أبو غوش أن هذين القطاعين تحولا إلى بوابة كبرى لتصريف الفائض النقدي من المجتمع الإسرائيلي. ويُوضح أبو غوش أن "الذهب يُعامل على أنه سلعة خاضعة لضريبة القيمة المضافة بنسبة 18% في إسرائيل، بينما يُعتبر نقدًا في الضفة الغربية ولا يخضع للضريبة ذاتها، ما يجعل السوق الفلسطيني بيئة مثالية لتصريف الشيكل وشراء الذهب من قبل من يحملون الهوية الإسرائيلية".
ويقول أبو غوش: "إن القيود الإسرائيلية المفروضة على المدفوعات النقدية منذ عام 2022، والتي حدّت سقف الدفع النقدي بـ6 آلاف شيكل فقط، دفعت شرائح واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي إلى التخلص من الفائض عبر قنوات غير رسمية، أهمها سوق الضفة، لا سيما في العقارات والذهب".
ويلفت إلى أن "إسرائيل، بصفتها المُصدرة لعملة الشيكل، ملزمة باستقبال الفائض النقدي، ولا يحق لها رفض التحويلات تحت ذرائع فنية أو قانونية؛ لأنها شريكة في بروتوكول باريس الذي ينظم هذه العلاقة، والاقتصاد الفلسطيني ليس منعزلاً عن السوق الإسرائيلي، خاصّة أن اتفاقية باريس تنص على سحب إسرائيل ما قيمته 12 مليون شيكل سنوياً من السوق الفلسطينية، مع إمكانية رفع هذا السقف ليصل إلى 18 مليون شيكل في بعض الحالات الاستثنائية مقسّمة على دفعات كل ثلاثة أشهر".
ويشدد أبو غوش على أن "أزمة تكدّس الشيكل اقتصادية بامتياز، وليست مصرفية، فالبنوك ليست السبب المباشر، بل المتلقّي للأزمة"، مطالباً سلطة النقد بتطبيق سياسات واضحة لضبط التدفقات النقدية من القطاعات الرئيسية. ويُحذر من أن كل ذلك يحدث ضمن هشاشة رقابية واضحة من الجانب الفلسطيني، قائلاً: "إن سلطة النقد بدأت فقط منذ نحو شهرين باتخاذ إجراءات لضبط هذا التدفق النقدي، لكنها جاءت متأخرة جداً، وكان الأجدر التحرك منذ لحظة صدور القرار الإسرائيلي بتقييد الدفع النقدي".
