هذه الانتخابات لمجلس الشعب في سورية
Arab
1 week ago
share

تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى سلطة تشريعية لإقرار سياساتها العامّة: قوانين جديدة ومعاهدات وموازنة وشطب قوانين قديمة وسواها. اتخذت الإدارة خطواتٍ عديدة لفرض هيمنتها على الدولة، وصار من الضرورة تشكيل مجلس شعب، لكنّه سيكون معيّناً، لأن الإعلان الدستوري المؤقّت ينصّ على أن يُعيِّن الرئيس الثلث، واللجان التي سيكلّفها الرئيس ستُعيّن الثلثَين. وبالتالي، ووفقاً للإعلان نفسه، ليست هناك أيّ انتخابات، ولن يُمثَّل الشعب في المجلس الذي سينطق باسمه. وقد أعلن الرئيس أحمد الشرع، قبل أسبوع، تشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب، وحدّد أسماءها، وباشرت اللجنة لقاءاتها مع الأعيان والمثقّفين في المحافظات. أولاً، هناك داخل اللجنة (من 11 عضواً) سبع شخصيات من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي حُلَّ، ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الائتلاف فشل فشلاً ذريعاً منذ تشكيله، وأُسقط في التظاهرات الشعبية منذ 2013، وهناك شخصيات منه متهمة بفساد. والسؤال: لماذا تعوّم شخصيات فاشلة؟... بقية أعضاء اللجنة من غير المعروفين في سورية، بينما موضوع انتخاب أعضاء مجلس الشعب يقتضي كثيراً من الدقّة في التمثيل، وقد ادّعت الإدارة وجود تعقيدات كثيرة تمنع الانتخابات المباشرة، فهناك ملايين المهجّرين، ولا يوجد إحصاء دقيق للسكّان، والوضع الأمني غير مستقرّ، ما يتطلّب لجنةً عليا من كبار رجال السياسة والقانون في سورية الذين يتّصفون بالوطنية والنزاهة، وعدا ذلك، ولأنّ المرحلة انتقالية (ولم تستقرّ بعد)، هناك تحدّيات داخلية وخارجية كثيرة، سيُباعد الإخفاق في تمثيل الشعب بين الشعب والإدارة وسيفقدها كثيراً من الثقة، لا سيّما أنها لم تستطع إيجاد أيّ مداخل جادّة للأزمات طوال الأشهر السبعة السابقة.

هناك فارق بين ضرورة وجود مجلس تشريعي حقيقي، مع تكليف شخصيات لتملأه، وتشريع قرارات الإدارة وسياساتها. الفارق أن وظيفة مجلس الشعب ليست الاستماع للحكومة كما ينصّ الإعلان الدستوري (ويجب تعديل هذا البند)، بل وظيفته، عدا ما ذكرناه، مراقبة السلطة التنفيذية، ومحاسبتها على تنفيذ القرارات والقوانين الصادرة من المجلس. تقتضي تحدّيات المرحلة الانتقالية فصلاً للسلطات، وتقتضي تكاملاً قائماً على الندّية بينها في الصلاحيات تحديداً، لا تغوّلاً من السلطة التنفيذية. لقد أصبح الشرع رئيساً في مؤتمر "النصر" للفصائل، ولم يكن هناك مؤتمر وطني للحوار، بل مؤتمر للحوار الوطني في أيام قلائل، أصدر بياناً غير مُلزِم للرئيس، وأيضاً أُتيَ بحكومة إدلب إلى دمشق، ثمّ تشكّلت حكومة ثانية، تتعثّر في خطواتها، وسيعيّن الشرع أعضاء مجلس الشعب بنفسه (ثلث يعيّنه الشرع مباشرةً وثلثان تعيّنهما لجنة الانتخابات المُعيّنة من الرئيس). وبالتالي، سيكون المجلس ناطقاً بلسان رئيس الجمهورية ودائرته الموثوقة.

عيّن حافظ الأسد أعضاء مجلس الشعب من 1971 إلى 1973، وأصدر مراسيم بأسمائهم، وكانت النتيجة كارثية

لا توجد أسباب مُقنعة لرفض الانتخابات المباشرة لأعضاء مجلس الشعب، وكان يمكن تأخيرها وتشكيل جمعية تأسيسية من شخصيات وطنية للنهوض بقضايا التشريع في المرحلة الانتقالية في الشهر الأول لهروب بشّار الأسد. كان يمكن "تنوير" الشعب و"تدريبه" على الانتخابات عبر إجراء انتخابات المجالس المحلّية في كلّ المدن السورية، وانتخاب أعضاء الإدارات المحلّية، وانتخاب مجالس النقابات العمّالية، واتحاد الفلاحين، بدلاً من تعيينها من المحافظين وأعضاء الهيئة العامة للشؤون السياسية ورجالات السلطة. إعطاء الشعب الحقّ بذلك وإعادة اللاجئين إلى مناطقهم وإجراء إحصاء موضوعي للسكّان (كان ذلك ممكناً خلال الأشهر السابقة) كانت ستؤسّس انتخابات حقيقية... الخلاصة هنا أن هناك سياسة ممنهجة لاستبعاد تمثيل الشعب مباشرةً، ولمصادرة صوته، ولرفض مشاركته في النهوض بمؤسّسات الدولة، ومنها حقّه في انتخاب ممثّليه في مجلس الشعب. هناك من يُبرّر ذلك بحكم ضرورات المرحلة الانتقالية، ولكن هناك هيمنة كاملة على مؤسّسات الدولة، وعلى السلطات الثلاث، وما يجري يتجاوز تلك الضرورات "الواقعية" إلى سياسة ممنهجة، ستكون نهايتها إرساء نظام فردي واستبدادي بالكامل.

عيّن حافظ الأسد أعضاء مجلس الشعب من 1971 إلى 1973، وأصدر مراسيم بأسمائهم، وكانت النتيجة كارثية، فأصبحت وظيفة مجلس الشعب إصدار القرارات التي تناسب مصالح الرئاسة وكبار الشخصيات في السلطة. ما يجري اليوم يشبه ما حدث في الأمس، وستكون النتيجة مماثلة. هناك فارق كبير في الظروف، فقد ورث الأسد نظاماً اقتصادياً واجتماعياً "اشتراكياً"، وطبقاتٍ بأكملها لصالحه، ومعها الطبقة البرجوازية المتضرّرة من تلك الاشتراكية، أمّا الرئيس الشرع وكامل إدارته وحكومته فينتهجون سياسات نيوليبرالية، ويعلنون أن اقتصادهم المستقبلي سيكون رأسمالياً، وسيعتمد على القطاع الخاص والرساميل الخارجية. أيضاً، لا يبدو أنهم يقرّبون منهم الطبقات الثرية في المدن، وهناك مؤشّرات للاحتجاج، لا سيّما مع بطء حركة الاقتصاد منذ الوصول إلى السلطة، وتهميش دور تلك الطبقات في القرار الاقتصادي، وطبعاً في القرار السياسي.

الفارق يكمن في وضعٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ كارثيٍّ في سورية حالياً، وهناك انقسامات مجتمعية، طائفية وقومية، ومناطق مدمّرة بأكملها، وملايين من السوريين لا يزالون مهجّرين داخل البلاد وخارجه، وهناك مئات آلاف المعتقلين والمغيّبين والشهداء، ويتطلّب الأمر عدالةً انتقاليةً. أيضاً هناك ثورة شعبية طالبت منذ 2011 بدولةٍ يتساوى فيها الجميع، وتُلغى فيها أشكال التمييز كافّة. هذه أوضاع لا تنتهي ما لم تعالج؛ وتلك الثورة هي من أسّست لرحيل الأسد. أهلُها يعتقدون ذلك، وهم محقّون، لذا تخطئ إدارة دمشق بمصادرة حقّ الشعب في الانتخاب، وإصرارها على تعيين حتى أعضاء المجالس المحلّية والنقابات، وانتهاءً بمجلس الشعب في الأشهر المقبلة.

لا تفهم السلطة الحالية الشعب السوري بوصفه مواطنين، بل أدياناً وطوائف وقوميات وعائلات، تمثّل هي بينهم الطائفة الأكبر

ليست جولات اللجنة العليا لتعيين أعضاء مجلس الشعب في المحافظات لدراسة احتياجات المدن وضمان التمثيل العادل، فخّطتها تقتضي التعيين لا الانتخاب. وأن يختار 30% من أعضاء مجلس الشعب من الأعيان، أيّ من العشائر والعائلات الكبيرة والطوائف والقوميات، هو تسييس للبنى الأهلية، ورفض لمبدأ المواطنة القائمة على المساواة في الحقوق، ولمشاركة الشعب في إعادة تأسيس الدولة بما يتوافق مع مصالح الشعب كلّه. لكن السلطة يبدو أنها لا تفهم الشعب مكوّناً من مواطنين، بل من أديان وطوائف وقوميات وعائلات، تمثّل هي بينهم الطائفة الأكبر. غياب عوامل الشرعية الحقيقية من اقتصاد قوي ونظام ديمقراطي ونقابات قوية وأحزاب قادرة على الوصول إلى الحكومة ومجلس الشعب والرئاسة... تدفع الإدارة لتعويضها عبر لعبة الطوائف. ترفض الإدارة الإقرار بالتطييف الذي تمارسه (وتستند إليه)، وسبب ذلك أنها بالمعنى الحقيقي لا تمثّل السُّنّة، بل تمثّل التيّار السلفي الذي تدّعي أنّها غادرته، بينما أغلبية المناصب الأساسية في الدولة ذهبت لهذا التيّار.

تخطئ الإدارة كثيراً بالإمعان في مصادرة حقّ الشعب في المشاركة، وهي كذلك لا تمتلك شرعيةً شعبيةً حقيقيةً، بل شرعيةً دينيةً ملتبسةً، وهناك فارق بين الأمرَين، وستتراجع الشرعية الأخيرة في حال استمرّت في تمكين التيّار السلفي في الدولة، فهل تعي بالفعل حجم التحدّيات الداخلية والخارجية، وخطورة هذا التيّار عليها، وهي التي تراقب قراراتها كافّة. مصدر الشرعية الحقيقي هو الشعب، ومن دون مشاركته سيبتعد عنها، وستتحوّل الشرعية الخارجية لعنةً للابتزاز. يأمل السوريون تخلّي الإدارة السورية عن سياسات التعيين، واللجوء إلى الانتخاب توجّهاً نحو نظامٍ ديمقراطي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows