
بفوزها بجائزة هنري دي رينييه، الممنوحة من قِبل الأكاديمية الفرنسية، عن روايتها "تذكَّرِ النحلَ جيّداً"، الصادرة عن دار غاليمار، تؤكّد الكاتبة المغربية زينب مكوار حضورها كواحدة من أبرز الأصوات الجديدة في المشهد الثقافي الفرنسي.
الرواية هي الثانية في مسيرتها الأدبية، وقد حظيت قبل هذا التتويج بإشادة نقدية وجماهيرية واسعة، ووصفتها إذاعة فرانس إنفو بأنها "قصة عالمية عن المرونة". وقد اختيرت ضمن قائمة أفضل الكتب الصيفية للعام الماضي من قِبل أكاديمية غونكور، كما ظهرت في العام نفسه ضمن القائمة الأولى لجائزة جان جيونو. وفي عام 2025، نالت جائزة فولير، التي تُكرّم الأعمال الأدبية المساهمة في تعزيز الصحة النفسية.
تدور أحداث الرواية في قرية إنزركي، الواقعة على منحدرات الأطلس الكبير، على بعد بضعة كيلومترات من مدينة أكادير. وتُعرف هذه القرية بعزلتها واحتضانها لأكبر وأقدم منحل تقليدي في العالم، شيّد عام 1850.
بعد فصل أول يركّز على الأم عائشة ومولودها الذي يعاني من نوبات تشنّج، في مشهد غير مكتمل يترك أثراً درامياً ويهيّئ القارئ لما سيحدث لاحقاً، تنتقل الكاتبة لتروي حكاية أنير؛ طفل في العاشرة من عمره يعيش مع جدّه، بعد أن تدهورت الحالة النفسية لوالدته عائشة، التي انعزلت تماماً وابتعدت عن رعاية ابنها. تصرخ أحياناً، لا سيّما عند الغروب، ولا تخرج من منزلها إلا في الصباح الباكر حين تتأكد من أنها لن تلتقي أحداً. تحيط بها الشائعات في القرية، وتوصف بـ"الممسوسة"، ما انعكس على أنير الذي بدا منطوياً على نفسه، منبوذاً من أقرانه. وقد وجد في جدّه ملاذه الوحيد، إذ يقضي معه معظم أوقاته. أما والده عمر، فقد انتقل إلى مدينة أكادير بحثاً عن عمل، غير قادر على مواجهة الوضع المعقّد داخل الأسرة.
تتناول التغيّر المناخي الذي يهددنا والنضال من أجل البقاء
تدور حياة أنير، ومعها حكاية القرية، حول النحل. يرافق جدّه طيلة اليوم، ويصغي إليه بكل ما فيه من رهافة وعذوبة، فينهل من معرفته الواسعة: يتعلّم عن حياة النحل الذي ينتج أفضل عسل في العالم، حيث يجمع رحيقه من طبيعة غنية بشجر الأركان، والزعتر، واللوز، والخروب، والزيتون. يتعرّف إلى أسرار الطبيعة والنباتات والأعشاب المحليّة، ويحفظ أسماء الرياح. لكن الأهم من ذلك، يستمتع بالقصص التي يرويها له الجد، وعلى رأسها قصة تأسيس المنحل في تادّارت، على يد الولي سيدي محمد الحسين، منذ زمن بعيد.
لكن مع مرور الوقت، تصبح الحياة أشدّ قسوة. ففي الماضي، كان طنين النحل لا يتوقّف، أما اليوم، فالحرارة والجفاف يشتدّان، والماء يشحّ، والحرّ يخنق الأنفاس. لم يعد هناك ما يكفي من الزهور ليقتات عليه النحل. يجد الجدّ صعوبة في شرح ما يحدث لحفيده، من جفاف الأرض وتدهور البيئة التي يعيشان فيها، ويتساءل في صمت عمّا إذا كانت قريتهم ستظل مكاناً صالحاً للعيش.
الاحتمال المطروح، بصمت، هو الرحيل إلى المدينة، حيث يقيم والد أنير، محاولاً ترتيب أوضاعه تمهيداً لقدوم عائلته. في ظل هذه الظروف القاسية، يعتني أنير بوالدته التائهة في صمت الجنون، وفي خلفية هذه المكابدة اليومية يظلّ هناك سرّ عائلي قديم يحيط بالأم، لا يرغب الجدّ ولا الأب في الحديث عنه، لكنه يُلقي بظلاله على الجميع.
قد تبدو حبكة الرواية بسيطة نسبياً، لكن سرّ قوّتها يكمن في السفر الروحي الذي تقود فيه الكاتبة القارئ عبر حكاية تأمّلية، بطيئة الإيقاع، مليئة بالمعاني المضمرة والمشاهد الحسيّة، في ظل حياة مكرّسة للنحل بكل انتباه، حيث يجعل مرور الزمن من كل لحظة أبدية.
في سردها الواقعي للتفاصيل، وبلغة شاعرية، تبرز مكوار قسوة الحياة في كرم الطبيعة وجمالها، بحرارة الجنوب، مثيرةً حواس القارئ في عالم يرزح تحت حرارة لا تُطاق، ويتقلب في روائح الأرض، وتدرّجات الضوء، ودفء النسيم على البشرة، وهمسات الغابات، ومرتع الحشرات، ومأوى الكائنات الصغيرة. علاوة على رهافة الكاتبة في معالجة موضوعات الخوف، وثقل التقاليد، والتهميش، والفقر، والعلاقات الإنسانية البسيطة والعفوية، مع وصفٍ يبلغ درجة عالية من الكثافة الدرامية من دون الوقوع في المبالغة العاطفية. كما تتماهى الرواية مع أرض تتبدّل ملامحها بفعل تغيّر المناخ، من الأحمر إلى الأصفر، ثم الأبيض، وهي الألوان التي اختارتها الكاتبة عناوين لأقسام الرواية الثلاثة.
وتحكي الكاتبة في أحد حواراتها الصحافية عن قلقها وهواجسها حيال الظلم الذي يتعرض له الإنسان، خصوصاً الأطفال، وهذا ما حفّزها على الكتابة التي تعتبرها "صرخة بلا ضجيج". لذا، ترى أن الرواية يجب أن تتشرّب الواقع، وتحكي عنه انطلاقاً مما يراه الكاتب ويعيشه. فـ"تذكّر النحل جيّداً" جاءت أوّلاً من انبهار الكاتبة بخصوصية المكان وظروف عيش أهله، بعد أن زارت القرية، لتتبلور التجربة سرداً روائياً دافئاً يحمل روح المنطقة، ووجوه سكانها، وشيئاً من لهجاتهم المحلية.
تُعدّ جائزة هنري دي رينييه، التي فازت بها الكاتبة، واحدة من أبرز الجوائز الأدبية التي تُمنح تحت رعاية الأكاديمية الفرنسية. تأسست عام 1994، وتضم عدّة مؤسسات أصغر، وتبلغ قيمتها 5000 يورو، وتخصَّص لتكريم مؤلفين قدّموا إسهامات متميّزة في الأدب الفرنسي. يأتي هذا التتويج بعد الإعجاب الكبير الذي حصدته الرواية من طرف القرّاء، باعتبارها حكاية إنسانية عميقة ومؤثرة، لا تخلو من المتعة، مكتوبة بنسيج شعري شجيّ ومؤلم، يدخلنا في لحظة تأمّل صامت بشأن التغير المناخي الذي يهددنا، والنضال اليومي من أجل البقاء.
تُجسّد تحوّل الجيل المغربي الجديد نحو التعبير بالفرنسية
وبهذا التتويج، تنضم الكاتبة إلى جيل من الكاتبات والكتاب المغاربة الذين اختاروا التعبير بلغة الآخر، وحققوا حضوراً لافتاً في المشهد الأدبي الأوروبي، في ما يعكس تحوّلاً في علاقة الجيل الجديد باللغات الأجنبية، خصوصاً الفرنسية؛ حيث يُطرح الأدب لا بوصفه صوت الهامش المنسي فحسب، بل باعتباره قادراً على الجمع بين الحميمي والكوني، بين المحلي والإنساني المشترك.
وفي لفتة رمزية، أهدت مكوار جائزتها إلى سكان قرية إنزركي، تعبيراً عن امتنانها لكرم الضيافة، مؤكدة أن الجائزة لا تسلّط الضوء على كاتبتها فقط، بل أيضاً على الموضوعات المحورية في الرواية: حبّ الأم، وضرورة رعاية الأرض.
ومكوار كاتبة مغربية من مواليد عام 1991 في الدار البيضاء بالمغرب. التحقت بمدرسة ليوطي الثانوية الفرنسية في المدينة نفسها. انتقلت إلى باريس عام 2009، وانضمت إلى معهد العلوم السياسية، ثم إلى كلية الدراسات العليا للإدارة. عملت في مجالات الاستشارات، والاستراتيجية، والشؤون العامة، واشتغلت ضمن مؤسسات فرنسية في قضايا مكافحة عمالة الأطفال، والعمل القسري، وحقوق الإنسان. أصدرت روايتها الأولى "الدجاجة وكمّونها" عام 2022.
* كاتب وشاعر من المغرب

Related News


