
في عام 2008، وصلت رواية "2666" للكاتب التشيلي روبرتو بولانيو إلى المكتبات الأميركية بترجمتها إلى اللغة الإنكليزية. وقد صدرت الرواية بعد وفاة مؤلّفها، وحظيت بإشادة من صحيفة نيويورك تايمز، لكن ما منحها دفعة استثنائية في المبيعات، كان ظهورها في "نادي أوبرا للكتاب"، الذي تقدّمه الإعلامية الأميركية أوبرا وينفري.
"نادي الكتاب"، الذي أطلقته أوبرا عام 1996، ضمن برنامجها التلفزيوني، سرعان ما أحدث تحوّلاً كبيراً في مشهد القراءة والنشر في الولايات المتحدة، إذ تحوّل على مدى عقدين إلى قوة ثقافية ناعمة قادرة على تحويل الكتب إلى ظواهر جماهيرية.
ورغم أن فكرة نوادي الكتب لم تكن جديدة تماماً، فإن الطريقة التي قُدّم بها كانت مختلفة وجذابة؛ إذ يُعرض الكتاب في أجواء بصرية وسمعية جذابة، مع حوار حميمي يقرّب القارئ من النص ويجعله جزءاً من التجربة. والنتيجة مبيعات بملايين النسخ، وكتّاب مغمورون يجدون أنفسهم في دائرة الضوء.
رغم تعدد البرامج الثقافية في عالمنا العربي، من "بيت القصيد" إلى "روافد" و"مطالعات" وغيرها، تمثيلاً لا حصراً، فإن أثرها لا يزال محدوداً، ولم تتمكن من تشكيل دور تفاعلي يصل إلى الحد الذي يصنع مبيعات، أو يخلق تياراً ثقافياً مؤثراً، بل غالباً ما تُعامل على أنها مجرد "زينة إعلامية"، لا ضرورة ثقافية.
هذا الواقع يدفع إلى طرح السؤال الآتي: أين "أوبرا" الثقافة العربية؟ أو بتعبير آخر: لماذا لا تصنع البرامج الثقافية العربية قرّاءً ولا كتباً ولا حتى كُتّاباً؟
كان من المفترض أن تُحرّك سوق النشر، وتربط الجمهور بالكُتّاب
تبدو معظم البرامج الثقافية العربية، سواء التلفزيونية أو الإذاعية، أقرب إلى طقوس بروتوكولية منها إلى مساحات إبداعية. ضيف يتحدّث بلغة خشبية، ومُقدِّم يقرأ من ورقة، ووقت بث متأخر لا يجذب إلا الأوفياء التقليديين للثقافة. لا مفاجآت، لا انفعالات، ولا حتى تلك اللمسة التي تجعل من الكتاب كائناً حيّاً.
بل إن بعض هذه البرامج، رغم احتوائها على أسماء لامعة وضيوف كبار، لا تملك تأثيراً حقيقياً على القارئ أو على حركة البيع. الكاتب يظهر على الشاشة، ثم يختفي، دون أن يتغيّر شيء في معدّل القراءة أو في اهتمام الناس بما كتب.
اليوم، لا يمكن للثقافة أن تعيش دون أدوات ترويجية. ولا يمكن للكتاب أن يبقى حياً إذا لم يجد من "يتحدث عنه" بلغة يحبّها الناس.
ربما آن الأوان لنفكر في برامج ثقافية حقيقية، لا تُعنى فقط بالتقييم، بل تُشعل الحماسة. برامج تُحوّل الكتّاب إلى شخصيات معروفة، وتجعل من الكتاب حدثاً، ومن القراءة عادة. وربّما، حينها فقط، سنصنع قرّاءً، وكتباً حقيقية تعيش.
تؤكد تجربة أوبرا أنَّ القراءة يمكن أن تُصبح ثقافة شعبية، شرط أن تُقدَّم بحماسة وصدق وشخصنة. الأمر لا يتطلب "استعراضاً نخبوياً"، بل فهماً بأن الكتاب يمكن أن يكون جزءاً من حياة الناس، وأنه يحتاج لمن يجعله موضوعاً للحوار لا للمحاضرة.
لقد كان من المفترض أن تلعب البرامج الثقافية العربية هذا الدور: أن تُحرّك سوق النشر، وتربط الجمهور بالكُتّاب، وتُعرّف القراء بالعناوين الجديدة، بل أن تحوّل الكتب إلى جزء من الخطاب العام. لكنها لم تفعل. لماذا؟ لأن الإنتاج الثقافي غالباً ما يُعامَل على أنه واجب مؤسّساتي، لا مشروع تواصلي. الإعلام لا يتعامل مع الكتاب بوصفه قصة، بل بوصفه سلعة جامدة.
الرهان الحقيقي ليس فقط على "ما يُقال" في البرامج الثقافية، بل على كيف يُقال، ولمن. الثقافة اليوم ليست معزولة عن التسويق والإعلام والتكنولوجيا. ومن لا يدرك هذا التداخل، يفوّت فرصة صناعة قارئ، بل وربما صناعة مجتمع أكثر وعياً وقدرة على التغيير.
* شاعر ومترجم مقيم في إسبانيا

Related News


