"إنه التاريخ. الأمر دائمًا يتعلق بالتاريخ".
بهذه العبارة قدم الشاعر الفرنسي لوي أراغون عمله الشهير "مجنون إلسا"، وكأنها رسالة تصلح لكل الأزمنة التي ترتكب فيها الجرائم الجماعية.
في غزة، حيث الحرب لا تهدأ، لا يحتاج الناس إلى كتب التاريخ ليعرفوا المعنى الحقيقي للفقد والدمار. هنا، عدد الأيام ليس مجرد أرقام في روزنامة، بل فصول متلاحقة من القصف والحصار والموت العشوائي.
633 يومًا من الموت المؤجل، من الحزن والترح، من الفقد والانكسارات والخسارات، من الأمل وانقطاع الرجاء.
أتساءل: كم مذبحة يمكن لعقل واحد أن يحتمل؟ كم كارثة يجب أن تقع فوق رؤوسنا كي تتوقف هذه الإبادة المستمرة؟ إلى متى سيظل هذا الواقع يطاردنا ويخنق أنفاسنا؟ وإلى أين يمكن أن نهرب من جغرافيا الحصار والدمار؟
ورغم ذلك، وكأن للحياة في غزة منطقًا خاصًا بها، أكتشف، وبتلقائية، أن الناس تضحك وتأتي أفعالاً مضحكة، وتفرح، وتتزوج، وتنجب، وتغني من قلب قلبها، حتى وهي تحت وطأة النكبات.
الحرب تعلمك الكثير. تعلمك أن ترهف السمع وتنتبه لتقدر الجهة التي يأتي منها إطلاق النار؛ لأن السماء أصبحت جهة محتملة للموت أيضًا.
تعلمك الحرب أن تسلم قليلاً، وألا تخاف إلا بمقدار القدر الضروري فقط.
وحين تضطر لمغادرة البيت، أن تأخذ الأهم فالمهم، وتعلمك الحرب أن تنتظر، أن تتحمل، وهذا في حد ذاته فعل مقاومة.
منذ بدء هذه الحرب، قُتل أكثر من 50 ألف إنسان في غزة، بينهم أكثر من 17 ألف طفل وامرأة، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
عشرات آلاف المنازل سُويت بالأرض، وخرج أكثر من 90% من السكان من منازلهم قسرًا. المستشفيات تحولت إلى مقابر جماعية، والمدارس تحولت إلى ملاجئ مؤقتة للناجين.
ورغم كل هذا الخراب المتراكم، أجد نفسي – وربما كثيرون غيري – مضطرين للتعايش؛ لم يتبق لنا أي خيار آخر سوى أن نكمل الرحلة.
وعلى الرغم من الألم الذي يرافقنا، إلا أنه يمكن أن نسمح للحرب بأن تلعب دورها في تشكيلنا قليلاً، في تسميك جلدنا وإعادة خلق فرصنا؛ لأننا من حزب النمل، من حزب قشة الغريق نتشبث بها ولا نفلتها، فإن قضت علينا نموت كالشجر واقفين، نُنجز أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة وخبرات ثمينة.
حتى عندما يرتبك المسار، يظل هناك يقين خفي بأن ما نعيشه اليوم، مهما كان موجعًا، ليس نهاية الحكاية؛ لأن الحياة، كما علمتنا غزة، تفرض سطوتها رغم كل شيء.
ثمة دائمًا ما يشبه المدينة والحب، الاحتلال والجسد، البيوت المهجورة والحرية.
أشياء تتقاطع، تتنافر أحيانًا، وتنسجم أحيانًا أخرى. منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، يتردد في وعيي ولاوعيي قول الراحلة شيرين أبو عاقلة:
"بدها صبر... خلي المعنويات عالية". جملة صارت مثل تعويذة تتردد كل صباح.
لأني من جيل مكلوم عاصر الحرب بكل فصولها على مدار 17 عامًا من الحصار المتواصل. ولأني أعرف الحروب جيدًا، عشت معها طويلاً. وأعرف جيدًا كيف تجعل الطريق إلى البيت، والعمل، والأصدقاء، والعائلة، معلقًا بأخبار المفاوضات وخطوات الوفود.
ومع كل هذا... نواصل الحياة، كما لو أننا نمارس فعل التحدي اليومي ضد موت معلن. نحن هنا، رغم كل محاولات الإبادة الممنهجة، ورغم كل المجازر التي تحولت إلى أرقام باردة في نشرات الأخبار.
لذلك، لا خيار لنا إلا أن نواصل المقاومة، أن نكتب، ولو من تحت الركام. أن نحكي، لأن الصمت تواطؤ. ولأن الصمت استسلام، واليأس خيانة؛ لأن التاريخ – كما قال أراغون – لا ينسى، ولأن غزة علمتنا أن نكون شهودًا لا ضحايا صامتين.
لذلك، ننهض في كل صباح، نلتقط أنفاسنا المثقلة، ونمضي... بشيء من الألم، وكثير من العناد.
Related News
