الأرضُ إذا تنفّست... تنبت وطنًا جديدًا
Arab
1 week ago
share

البيئة... ذاكرة الحياة

البيئة ليست مجرد خلفية صامتة لأحداث البشر. هي الذاكرة الحية التي تختزن خُطانا، واللغة التي تفهم وجعنا بلا كلمات. كميناءٍ فقد سفنه، غابت الغابات والأنهار عن المشهد السوري بفعل الحرب، والقصف، والنزوح، والإهمال، وكأن الطبيعة أيضًا أُجبرت على الفرار.

حين نُمعن النظر في وجوه المدن السورية المنكوبة، نرى الطبيعة تبكي بصمت. غابت الطيور، وتلاشى الحضور الأخضر، حتى الهواء فقد نكهته. أما التربة التي لطالما أعطتنا دون قيد، فقد امتلأت بشظايا الذخيرة والرماد، وكأنها تستغيث من وجعٍ لا صوت له.

لكننا إذا أردنا لسورية أن تنهض، لا يكفي أن نُرمم الجدران المتشققة، بل أن نُعيد للبيئة حقها في التنفّس. فالشجرة ليست زينة، هي مظلّة الأجيال، والماء ليس للري فقط، بل لحياة لا تعرف الظمأ. البيئة هي القلب الصامت، الذي إن عاد للنبض، عاد معه الأمل.

العمارة الخضراء... وطنٌ لا يختنق

من يزرع نبتة على أنقاض جدار، يُعلن أن الحياة أقوى من الحرب. ومن يبنِ بيتًا يحتضن ضوء الشمس، ويوفّر طاقته من الريح أو الشمس، يزرع وعيًا جديدًا لا يكتفي بالإسمنت، بل يحتضن الطبيعة ضمن خطته للبقاء.

نحن بحاجة إلى هندسة تحمل روح المكان، لا فقط خرائط جامدة. العمارة الخضراء هي أن نعيش بتناغم مع ما حولنا، أن نُعيد تدوير مواد البناء، أن نُشيّد الأسطح الخضراء، أن نفتح للنور نوافذه دون أن نستهلك أرواح الجبال.

من يزرع نبتة على أنقاض جدار، يُعلن أن الحياة أقوى من الحرب. العمارة الخضراء هي أن نعيش بتناغم مع ما حولنا، أن نُعيد تدوير مواد البناء وأن نُشيّد الأسطح الخضراء

سورية الجديدة بحاجة لمدنٍ تنمو لا تتضخّم، لطرقاتٍ لا تلتهم الأشجار، ولمشاريع تعمير لا تنظر للبيئة باعتبارها ترفًا، بل حليفًا في البقاء. فالتخطيط البيئي ليس رفاهية، بل ضرورة لحياة كريمة ومستدامة.

هل نتخيل حلب بعد الحرب محاطة بأحزمة خضراء تحميها من التصحر؟ أو دمشق تنفّست من جديد بعدما استُعيدت غوطتها المكلومة؟ ليست هذه أحلامًا رومانسية، بل خرائط حياة يجب أن تُرسَم منذ الآن.

البيئة جسرًا للسلام

وإذا كانت السياسة تمزّق الأوطان، فالبيئة توحّدها. فالشجرة لا تسأل من زرعها عن طائفته، والمياه لا تختار من تسقيه. في مشاريع التشجير وإعادة تدوير النفايات والطاقة الشمسية، يمكن للناس أن يعملوا معًا، يتعلّموا معًا، ويُعيدوا نسج النسيج السوري الممزق.

من خلال المبادرات البيئية، يمكن بناء الثقة المفقودة. تخيّل شبانًا من مناطق كانت على طرفي النزاع، يجتمعون لزراعة غابة أو تنظيف نهر. هذه اللحظات تصنع أكثر من هواءٍ نقي، تصنع معنى جديدًا للانتماء.

قد تكون البيئة أقصر الطرق إلى المصالحة، لأنها تُعطي الجميع من غير تمييز. وما أجمل أن نرى أطفالًا من قرى متخاصمة، يزرعون بذورًا صغيرة في تربة واحدة، يتشاركون ضحكة وسطل ماء.

البيئة، بما تحمله من حياد وعدالة، تملك القدرة على رتق ما مزّقته الحرب، ليس فقط في الأرض، بل في النفوس.

الختام: من تحت الركام... تنبت شجرة

إعادة الإعمار ليست صفقةً مالية، بل مشروع حياة. ومن لا يُدرج البيئة في خطته، يبنِ بيتًا بلا نوافذ، ووطنًا بلا هواء. إذا أردنا لسورية أن تشفى، فلنبدأ من التُربة، من الجذور، من الزرع والجدول، من عناق الشمس للحيطان، ومن عودة السنونو إلى بيوتنا المهجورة.

الوعي البيئي ليس مهمة وزارة أو منظمة، بل هو مسؤولية جماعية تبدأ من البيت، من الطفل الذي يتعلّم ألا يرمي قشر الموز في الشارع، من المزارع الذي يُعيد الحياة لتربته، من كل مواطن يرى في الشجرة أملاً لا خشبًا.

علينا أن نُعيد البيئة إلى صُلب الحلم، لا في آخر قائمة الأولويات. فمن يزرع اليوم، يضمن غدًا لا يُشبه الأمس. ومن يُصالح الأرض، تُصالحه الحياة.

فلنمنح الطبيعة فرصة لتُشاركنا في شفاء سورية، ولنجعل من كل زهرة تُزهر على الركام، رسالة انتصار على الموت.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows