أما حان أن نأخذ إجازة من موتنا؟
Arab
1 week ago
share

بنفَسٍ متقطّعٍ أكتب، وبقلبٍ يلهث أعدّ أعضائي جميعها، من يحذف هذا الجرحَ من الذاكرة؟ ومن يسحب المشقة عن قلبي ليهدأ؟

صدري حربُ وجودٍ طاحنة، كلماتٌ غليظةٌ أقدامُها لا تكفّ عن المشي والصراخ، لها وقعٌ مثل العويل، وصوتٌ يحثّ على البكاء، تجتاحني وتنشئ بياراتٍ من الحزن، تذبح كلماتٍ رشيقةً خفيفةً مثل الفراشات، مصقولٌ جمالها بعناية، لها رائحة الموج في الصيف وأشجار الربيع، كان لها أن تسكنني وتقيم في عيوني لتبصر، لكنها مذبوحة ومنسية، حفظتها بما يكفي لتصيرَ حسرةً وسكاكين، وجعلتها شعوباً من الكلمات والجُمل والقصائد، ما يكفي لئلا تسحب حسرتها، عن قلبي، وتُغادر.

لحظةً بعدتُ عنك أيها الموت، لحظةً أبعدتني عن مخالبك التي تطال الناس، وتقذفهم إليكَ من دون جنازة ولا وداع.

رغم أنني لا أخرج من البيت، أسابيع أقضيها وحيداً بلا رفاق، فلماذا انتظرتني لأخرج؟

أتعرف أنني سرقت دقائق وخرجت، وضعت حاسوبي في نقطة شحن، لأدرس لاختباراتي الجامعية، وغادرت نحو بسطة صغيرة تحمل ما تيسّر من الخضار، فأتيتَ، أتيتَ ثقيلاً وموجعاً، ركضت بعيداً عن حجارتك التي لاحقتني، وانتظرت حتى يخفت الغبار، ويكشف عن الدم، والجريمة.

أنا مثلكِ يا أمي، أشبهك، وأشبه قلبك، لا أموتُ قبل أن أنجز مهامي، وأعيش نصيبي من الحياة والفرح

كنتُ هناك، في عناقك القاتل، تحت عينكِ الوقحة التي تعرف طريق أجسادنا جيّداً. ركضت كما كنت أفعل سابقاً، هذه المرّة ليست خلف كرةٍ، ولا فراشة، بل نحو قلبها (أمي) الزجاجي الذي كان يشحذ وجهي من النوافذ، من الناس، من رائحة الدم، وأقوال الغبار. أنا يا أمي لن أغادركِ، ولن يكتبوا اسمي في خبر. لقد حرصتِ أن أكون مثلك، ومثلكِ تعرفهم العصافيرُ، وردُ الشرفات، وعشب الأرض، لا يرحلون بهذه القدرة من المفاجأة، يودّعون الناس ويعرفون موعد موتهم جيّداً. ألم تعلّميني إدارة الوقت، وتنظيم اليوم؟ لماذا إذن تخافين وأنا لم أودّعكِ سابقاً، ولم أحدّثكِ عن وصاياي التي لم أكتبها؟ مثلكِ يا أمي لا يموت قبل أن ينجز كلّ مهامه، وأنا مثلكِ يا أمي، أشبهك، وأشبه قلبك، لا أموتُ قبل أن أنجز مهامي، وأعيش نصيبي من الحياة والفرح. 

عانقيني إذن، ألملمْ زجاج قلبك، وأسحب من خيالك جثتي ودمي، أحدّق في الأحزان والكدر الذين لا يأتونني عراةً، بل حاملين بحار المشقةِ على ظهورهم، يسافرون إلى البلاد البعيدة، يأتونها في مواسمَ معروفة ومحدّدة، ويغادرون في الأعياد.

يصفقّون للفرح وهو يستبدل أماكنهم بالورد والألوان، يقطعون البحار والجبال إلى المدن والقرى، يفتّتون المحبّة ويُشعلون الحروب، يذخّرون الطائرات والأسلحة، يضعون قناصاتهم على جيد النساء، وصدر الصغار، يعلّمون الحجارة كيف تطير نحو أجساد الناس، وأسقفَ البيوت كيف تصير شواهدَ غليظةً ثقيلةً فوق ساكنيها.

يعلّمون الحجارة كيف تطير نحو أجساد الناس، وأسقفَ البيوت كيف تصير شواهدَ غليظةً ثقيلةً فوق ساكنيها

لا يأتون إليّ عراةً، لو أنهم كذلك، لما فرد الموتُ معاجمَه على نصّي، وتوقفت عن انتظار العصافير الشقية في الصباح، لكانت قصائدي تشبه أمي وهي تمشّط شعرنا قبل الدوام، وفرحَنا حين تُبقينا نائمين يومَ تمطر.

لا يأتونَ إليّ عراةً، وهم كذلك حتى يصير قلبي ثقيلاً، والذكرياتُ مرادفاتٍ لسهامٍ تفقأ الحسرة والخيبة والدموع، تشيّدُ كواكب الحزن في صدري وتأخذني إلى المقابر، إلى الرفاق الذين لم يودّعوني، أسماؤهم الباردة فوق الرخام تنام مكسوة بالغبار والنسيان. لا، ما زال في قلبي مواضع لم يطؤوها من حبّه لهم، وقصائد ستصير أجمل لو تتسلّق شفاههم النائمة تحت الرمال.

 أما حان أن تأخذوا إجازة من موتكم، وتصعدوا من قبوركم إلينا، تحكون لنا عن عيون القاتل واسم البندقية، والأكفان التي لو أحكمناها على أجسادكم لما سرقتها أقدارُنا من الأحزان، وجاءت بثيابكم التي لا طاقة لنا إن شممناها إلا أن نعانقها جيداً؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows