بين نانسي فريزر وجوديث بتلر
Arab
1 week ago
share

تُعتبر جوديث بتلر من أبرز المُنظّرات في مجال الجندر والهُويّة في العقود الأخيرة، وقد شكّل تحليلها لأداء الجندر (gender performativity) مساهمة محورية في نشوء ما يُعرف اليوم بالنظرية الكويرية. إلا أنّ هذا التوجّه الثقافي واللغوي في تحليل الجندر لم يخلُ من النقد، لا سيما من جانب نانسي فريزر، التي تنتمي إلى تيار نسوي ماركسي يُركّز على العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الموارد الاقتصادية.

ترى فريزر أنّ الاهتمام المُفرط بالهّويّة والاعتراف الرمزي، كما في أعمال بتلر، يؤدي إلى إغفال البُعد البنيوي والاقتصادي للاضطهاد، ويُسهم (من دون قصد) في خدمة الأجندة النيوليبرالية التي تتلاعب بخطاب "التمكين الفردي" من دون المساس بجذور الظلم الطبقي.

أولاً، نقد سياسات الهوية

تعترض فريزر على انزياح النسوية المُعاصرة نحو سياسات الاعتراف على حساب سياسات التوزيع. فبينما كانت النسوية في سبعينيات القرن العشرين تناضل من أجل الأجور، والرعاية، وشروط العمل، انتقل التركيز تدريجيًا إلى قضايا اللغة، والصورة، والهُويّة. وتُحمّل فريزر أعمال بتلر جزءًا من هذا التحوّل، بوصفها نموذجًا لتحليل يفكّك الجندر من دون أن يربطه بوضوح بالبنية الطبقية أو بالمؤسسات الاقتصادية.

تهميش المطالب الاجتماعية-الاقتصادية، مقابل التركيز على الاعتراف بالاختلافات الرمزية والهُويّات المتنوّعة

وتشير فريزر إلى أنّ هذا التحوّل قد خدم، بشكل غير مباشر، الليبرالية الجديدة، لأنه أدى إلى تهميش المطالب الاجتماعية-الاقتصادية، مقابل التركيز على الاعتراف بالاختلافات الرمزية والهُويّات المتنوّعة، وهي مطالب يمكن للنظام الرأسمالي التكيّف معها من دون تغيير حقيقي في بنيته.

ثانيًا، الجندر أداءً والنقد الماركسي

مفهوم "أداء الجندر" الذي تطرحه بتلر يفترض أنّ الهُويّة الجندرية ليست سوى تكرار مستمر لسلوكيات وخطابات اجتماعية. إلا أنّ فريزر ترى في هذا التحليل طابعًا تجريديًا مُفرطًا، يفصل الجندر عن الشروط المادية التي تُنتجه وتعيد إنتاجه.

فبالنسبة لفريزر، لا يمكن فهم وضع النساء أو الكويريين، من دون تحليل علاقاتهم بوسائل الإنتاج، وسوق العمل، والعمل المنزلي غير المدفوع. بينما تُقدّم بتلر الجندر بوصفه خطابًا أكثر منه علاقة مادية، ما يجعل من الصعب ربط أفكارها بنضال نقابي أو طبقي ملموس.

ثالثًا، إشكالية الفصل بين الجندر والاقتصاد

تنتقد فريزر بتلر لأنها لا تدمج تحليلها للجندر ضمن رؤية تحليلية للرأسمالية. فمثلًا، لا تحلّل بتلر كيف يُستخدم الجندر في تقسيم العمل، أو كيف تستفيد الرأسمالية من تثبيت الأدوار الجندرية لضمان بقاء العمل المنزلي غير مدفوع الأجر.

تُقدّم بتلر الجندر بوصفه خطابًا أكثر منه علاقة مادية، ما يجعل من الصعب ربط أفكارها بنضال نقابي أو طبقي ملموس

في المقابل، ترى فريزر أنّ الجندر ليس فقط بنية ثقافية، بل هو أيضًا بنية اقتصادية تُستخدم لتبرير استغلال النساء والكويريين في مختلف السياقات الاجتماعية. وبالتالي، فإنّ النضال النسوي لا يجب أن يقتصر على تغيير الرموز واللغات، بل يجب أن يشمل تغييرًا في توزيع السلطة والثروة.

رابعًا، غياب البرنامج السياسي العملي

ترى فريزر أنّ أعمال بتلر، رغم قيمتها التحليلية، لا تُفضي إلى برنامج سياسي عملي. فالنقد التفكيكي، حين يُمارَس بمعزل عن مشروع اجتماعي تغييري، قد يُنتج حالة من الشك المستمر من دون أن يقدّم بديلاً. في وقت إنّ النسوية الراديكالية أو الاشتراكية، في تصوّر فريزر، تحتاج إلى رؤية تركيبية تُزاوج بين الاعتراف الثقافي والتوزيع الاقتصادي، وتُوجّه نقدها للرأسمالية لا للغة فقط.

يمثّل نقد نانسي فريزر لجوديث بتلر محاولة لاستعادة البُعد الاجتماعي والمادي للنضال النسوي، في مواجهة التيارات التي اختزلت الجندر في الأداء والخطاب. وبينما لا تنكر فريزر أهمية تفكيك السلطة الرمزية، فإنها تُصرّ على أنّ النضال من أجل العدالة الجندرية يجب أن يكون في آنٍ واحد: نضالًا من أجل الاعتراف ونضالًا من أجل التوزيع.

وبالتالي، فإنّ هذا النقد لا يُقلّل من قيمة مشروع بتلر، بقدر ما يُعيد توجيهه نحو ربط أعمق بالبنية الطبقية والنقد الاقتصادي للرأسمالية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows