"نُحرّركنّ بالقنابل": تفكيك خطاب النسوية الأمنية
Arab
1 week ago
share

في الأحداث الكبرى، كالحروب والأوبئة، غالباً ما يتصدّر الرجال المشهد. رؤساء، وجنرالات، وأطباء، وعلماء، يحتلون الشاشات والتصريحات والتهديدات. وليست هذه المطالعة بصدد مناقشة ذلك كله. لكن هذه الذكورة التي تحتل مشاهد العنف المُقبلة علينا منذ أشهر، وقد اشتدّت في الأيّام الماضية مع بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، ثمّ تحوّله إلى مواجهة عسكرية يومية، أعادت النساء إلى الواجهة، على عكس المتوقع، أو ربّما المتوقّع تماماً.

في مستهل هذه الحرب، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل تعبّد بحربها هذه "طريق الحرية" أمام الإيرانيين. لتكرّ بعدها سبحة التحليلات عن أوضاع الإيرانيات داخل بلادهن... وبطبيعة الحال، لا يحتاج العالم، ولا الإيرانيات أنفسهنّ، إلى التذكير بأنّهن يعشْن وسط قوانين متشدّدة، وتحت سلطة أبوية/ دينية تجعل الخروج بلا حجاب سبباً للاعتقال والتعذيب، والموت، كما حصل مع الشابة مهسا أميني في سبتمبر/ أيلول 2022.

يمكن كتابة موسوعة من أجزاء متعدّدة عن نضال النساء الإيرانيات ضد السلطة الذكورية/ الدينية، والقمع، والمراقبة. لكنّ كلّ ما سبق يخرج من سياقه حين يقرّر مجرم حرب مثل نتنياهو استغلاله لتبرير قصف إيران. وهذا ما عبّرت عنه ناشطات إيرانيات منذ اللحظة الأولى للحرب، رفضن أن يُستخدم نضالهنّ ذريعة لتدمير بلادهنّ وقتل المدنيين، ولعلّ الموقف الأبرز هو الرسالة التي وقّعت عليها أربع نساء مُعتقلات في سجن إيفين شمال غرب طهران: ريحانة أنصاري، وسكينة بروانه، ووريشه مرادي، وغُلنرخ إيرايي، رفضن فيها ربط تحرّر الإيرانيات بـ"التعلق بالقوى الأجنبية أو تعليق الآمال عليها"، مؤكدات أن هذا التحرر يحصل من خلال "نضال الجماهير والاعتماد على القوى الاجتماعية".

ما يُقال عن أوضاع النساء في إيران، يُقال أيضاً عن حال أغلب النساء في منطقتنا

المهمّ أن ما يُقال عن أوضاع النساء في إيران، يُقال أيضاً عن حال أغلب النساء في منطقتنا. فالقوانين والتشريعات التي ترعى التمييز، والتقاليد الاجتماعية التي تحوّل الاضطهاد إلى قاعدة، واقع تعيشه ملايين النساء، ويدفعن ثمنه في أغلب جوانب حياتهن.

منذ 2001

في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، وقفت السيّدة الأولى في الولايات المتحدة، لورا بوش، أمام الميكروفون لتُلقي خطاباً غير مسبوق: "حربنا على الإرهاب هي أيضاً حربٌ من أجل كرامة النساء وحقوقهن". لم تكن كلماتها في ندوة نسوية أو بيان من منظمة حقوقية، بل جاءت ضمن حملة تعبئة سياسية وعسكرية لشرعنة غزو أفغانستان، الذي كان قد بدأ قبل شهر فقط. النساء الأفغانيات، ببرقعهنّ وصورهنّ في تقارير الإعلام الأميركي، تحوّلن بين ليلة وضحاها إلى ذريعة إنقاذ استُخدمت لتبرير القصف والاحتلال.

من أفغانستان إلى العراق، وصولاً إلى إيران حيث رفعت النساء شعار "نساء، حياة، حرية"، لم تتردّد الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل في اعتناق الخطاب النسوي لخدمة أهداف عسكرية أو جيوسياسية. بات تحرير المرأة، فجأة، مهمة جليلة تتولاها الصواريخ والطائرات المسيّرة. لكن، ماذا عن النساء اللواتي يمتن تحت هذه الصواريخ؟ وماذا عن النساء الفلسطينيات؟ وماذا عن شرعية هذا الخطاب، حين يتبنّاه رجل مثل بنيامين نتنياهو؟

هنا محاولة لفكفكة هذا الخطاب، وتشريح علاقته بما تُعرف اليوم بـ"النسوية الأمنية (Securofeminism) التي تتحالف مع القوة والسلاح تحت غطاء الدفاع عن النساء. وهو، في الوقت نفسه، تذكير بأن القضايا العادلة، حين تقع في فخ الاستخدام السياسي، تفقد جوهرها وتتحوّل أدواتٍ للتلاعب والهيمنة.

القضايا العادلة، حين تقع في فخ الاستخدام السياسي، تفقد جوهرها وتتحوّل أدواتٍ للتلاعب والهيمنة

في أعقاب عمليات 11 سبتمبر (2001)، احتاجت إدارة جورج بوش الابن إلى غطاء أخلاقي لحربها في أفغانستان. لم يكن كافياً الحديث عن ملاحقة تنظيم القاعدة، ولا عن إسقاط نظام حركة طالبان، فاستحضرت الإدارة الأميركية ملف النساء: تلك الكائنات المسجونة في المنازل، المحرومة من التعليم والموسيقى، والمُجبَرة على ارتداء البرقع. ثم سرعان ما تعزّزت هذه الصورة بمساعدة الإعلام الأميركي، الذي نشر تقارير عن نساء يُعدن إلى المدارس، ويخلعن البرقع، وكأن تحرير المرأة بات فعلاً مرادفاً للاحتلال. مجلّة "تايم" نشرت غلافاً شهيراً لامرأة أفغانية مشوّهة الوجه وكتبت عليه: "ما سيحدُث لو تركنا أفغانستان". لكن الحقيقة أن هذه المرأة لم تُشوّه على يد "طالبان"، بل نتيجة عنف أسري، بعدما اعتدى عليها زوجها. ولم يأتِ أحد على ذكر أن هذه الحكايات، حين تُروى على لسان قوّة احتلال، تتحوّل إلى مسرحية أيديولوجية، لا إلى تعبير عن تضامن.

اللافت أن هذا الخطاب لم يكن حكراً على السياسيين، فقد انخرطت نسويات غربيات بارزات في حملة التبرير: منظمّات أميركية مثل Feminist Majority Foundation دعمت الغزو، وصحافيات وناشطات تبنّين فكرة أن القنابل قد تُنبت مدارس للبنات. حتى مجلة Ms النسوية، رحّبت بالتدخل العسكري بوصفه نصراً للنساء. لكنّ ما حدث فعلاً أنّ الأفغانيات عانين من تحالف الولايات المتحدة مع أمراء الحرب الذين لم يكونوا أقلّ قمعاً من حركة طالبان، وفق تقارير حقوقية عديدة. لم يُستشَرن، لم يُصغَ إليهن، بل حُوِّلن إلى أدوات بروباغندا.

عانت الأفغانيات من تحالف الولايات المتحدة مع أمراء الحرب الذين لم يكونوا أقلّ قمعاً من حركة طالبان

طرحت الباحثة الأنثروبولوجية، ليلى أبو لغد، سؤالاً حاسماً: "هل تحتاج النساء المسلمات إلى إنقاذ؟". أما الأكاديمية والناقدة الأميركية ــ الهندية غاياتري سبيفاك، فوصفت ذلك بنموذج "الرجل الأبيض الذي ينقذ النساء الملونات من الرجال الملونين". إنها نسخة القرن الواحد والعشرين من عبء الرجل الأبيض الاستعماري. وقد أظهرت التجربة أن "الإنقاذ" لم يأتِ إلا بمزيد من الفوضى، ومزيد من العنف، ومزيد من استغلال النساء.

كانت النتائج على الأرض كارثية. الأفغانيات، بدلاً من أن يحصلن على الحماية والفرص، وجدن أنفسهن بين نيران "طالبان" وفساد الحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن. بل تعرّض بعضهن للاغتصاب من مليشيات مدعومة من أميركا. وبعد عقدين من الحرب، عادت "طالبان" إلى الحكم، وعادت النساء إلى دائرة القمع القاتل، من دون اهتمام إعلامي غربي هذه المرّة.

العراق أيضاً

عندما بدأ التمهيد لغزو العراق عام 2003، استخدمت إدارة بوش الخطاب نفسه. صحيح أن أسلحة الدمار الشامل كانت الحجّة الأولى، لكن خطاب "تحرير المرأة العراقية" ما لبث أن أصبح جزءاً من آلة ترويج الحرب. وقد صرّح مسؤولون أميركيون علناً إن المرأة العراقية ستنتقل من القمع إلى الحرية بفضل الاحتلال. روّجت حملة بعنوان W stands for Women لتُظهر أن الرئيس بوش يدافع عن النساء. ظهرت البرلمانيات العراقيات الجديدات في المؤتمرات الصحافية الأميركية، في استعراض تمثيلي شكلي في برلمان طائفي. وعلى أرض الواقع، انقلب كلّ شيء: تدهورت البنية التحتية، تفاقم العنف، تراجعت مشاركة النساء في الحياة العامة، وارتفعت نسب الفقر والانتحار والزواج المبكر.

المرأة العراقية، التي كانت حتى قبل الحرب من الأكثر تعليماً ومشاركة في العمل في العالم العربي، خسرت مكتسباتها. وازدادت جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها الجنود الأميركيون ضد العراقيات، منها على سبيل المثال جريمة المحمودية عام 2006، حين اغتصب خمسة جنود أميركيين الطفلة العراقية عبير قاسم حمزة الجنابي (14 عاماً) ثم قتلوها بعد قتل كل أفراد أسرتها، وحرقوا المنزل والجثث لإخفاء جريمتهم.

ببساطة، لم يكرّس النظام الجديد الذي روّجته الولايات المتحدة أي مكاسب حقيقية للنساء، بل سلّم السلطة لأحزاب طائفية ومحافظة، تقلّص معها دور المرأة، وارتفعت معدّلات العنف القائم على النوع الاجتماعي. حتى القوانين التي كانت تحمي بعض حقوق النساء جرى تهميشها، وأعيد إنتاج البنية الأبوية باسم الديمقراطية.

 النظام الجديد الذي روّجته واشنطن في العراق لم يكرّس أي مكاسب حقيقية للنساء، بل سلّم السلطة لأحزاب طائفية ومحافظة، تقلّص معها دور المرأة

في كتابها "ضد النسوية البيضاء" (Against White Feminist)، الصادر عام 2021، تشرح الكاتبة الأميركية (باكستانية الأصل) رافيا زكريا، أنها في خضم الاحتلال الأميركي للعراق، لم تكن برامج "مكافحة الإرهاب" مجرّد خطط أمنية، بل كانت أيضاً مشاريع اجتماعية – فاشلة – حاولت إعادة هندسة علاقة النساء بعائلاتهن ومجتمعاتهن، تحت شعار "التمكين".

من بين أبرز هذه البرامج، تبرز مبادرتان: "بنات العراق" و"أخوات الفلوجة"، وهما مشروعان أميركيان تأسّسا خلال سنوات الاحتلال لتجنيد النساء العراقيات في أدوار أمنية واستخبارية، مهمّتهن الرئيسية: التجسّس على الرجال في مجتمعاتهن (الأشقاء، الأزواج، والآباء) تحت ذريعة مواجهة التطرّف. بدا أن الرهان الأميركي يقوم على فكرة أن المرأة العراقية جاهزة للتخلي عن روابطها العائلية، للتحالف مع القوة الأجنبية المحتلة، ما إن يُعرض عليها دور "الشرطية" أو "المخبرة" باسم الحرية. لكن ما قُدِّم كمشروع تحرير أو تمكين، تحوّل في الواقع إلى شكل عنيف من "استخدام النسوية سلاحاً"، بحسب رافيا، إذ تحوّلت المرأة من كائن صاحب قضية إلى أداة تخدم المنظومة الأمنية ذاتها التي دمّرت مجتمعها.

أُعِدّت هذه البرامج داخل سردية أوسع هي "النسوية الأمنية" (Securo-feminism). وفق هذا المنطق، ليس مطلوباً من المرأة أن تناضل لأجل العدالة، بل أن تشارك في صياغة الرواية الأمنية الأميركية، عبر جمع المعلومات، وترسيخ الفكرة بأنّ كلّ رجل عراقي مُشتبه به. ولكن هذه المقاربة تجاهلت أمراً أساسياً: الروابط الاجتماعية والعائلية في المجتمعات العراقية ليست هشّة ولا عشوائية، بل هي، في أحيان كثيرة صمّام الأمان الوحيد وسط الدمار والتفكك الناتج عن الحرب.

الروابط الاجتماعية والعائلية في المجتمعات العراقية ليست هشّة ولا عشوائية، بل هي، في أحيان كثيرة صمّام الأمان الوحيد وسط الدمار والتفكك الناتج عن الحرب

وإن كانت هذه البرامج قد نجحت لحظيّاً في إنشاء وحدات نسائية أمنية في بعض المناطق، إلا أن أثرها الاجتماعي كان محدوداً أو حتى عكسيّاً. كثير من النساء اللواتي شاركن تعرّضن للوصم، والمجتمعات التي طُبّقت فيها تلك البرامج شهدت توتّراً أكبر بين الجنسين وزيادة في انعدام الثقة. وبحسب رافيا زكريا، لا يغيّر تسويق هذه البرامج، تحت شعار نسوي، من طبيعتها الاستعمارية، فالاعتقاد أن "تحرير المرأة" يمرّ عبر تحويلها إلى سلاح ضدّ محيطها، هو في جوهره رؤية استعلائية ترى في المرأة العربية مجرّد أداة تصلح فقط إذا خدمت أجندة الخارج. هو تفكير يفترض أنّ النساء في المجتمعات المسلمة قابلاتٌ للشراء بالبدلات العسكرية والدورات التدريبية، ومتروكات بلا ولاء إلا لمن يُعطيهن "سلطة على الرجال".

ما يجمع الحالات العراقية والأفغانية، والآن الإيرانية، هو ما يُعرف بـ"النسوية الأمنية"، أو تلك النسوية التي تتحالف مع الدولة والجيش والمصالح الجيوسياسية تحت غطاء الدفاع عن النساء. نسوية تشبه العسكر أكثر مما تشبه الحركات النسوية التحرّرية.

تحويل النساء رموزاً

في أفغانستان والعراق، وفي سرديات إسرائيل عن إيران، تحوّلت النساء من فاعلاتٍ إلى رموز تُستخدم، إلى صور على أغلفة المجلات، إلى حجج في خطابات سياسيين. وبينما تقتل الحروب النساء، تُستخدم أسماؤهن لتبرير هذه الحروب.

لا تسعى النسوية الأمنية إلى التحرير، بل إلى إعادة إنتاج النظام القائم، مع تحسين صورته الخارجية، فهي لا تُحرّر النساء، بل تُعيد إدماجهن في النظام العسكري أو الاستعماري كواجهة ناعمة. تُعيّن امرأة ناطقة باسم الجيش. تُوضع صورة فتاة على دبابة. يجري تمويل برنامج تدريب نساء رائدات في بلد محتل. وذلك لإشاعة وهم أو سراب حقوقي.

لا تسعى النسوية الأمنية إلى التحرير، بل إلى إعادة إنتاج النظام القائم، مع تحسين صورته الخارجية

تجد النسوية الأمنية حلفاء لها في الإعلام، وفي منظمات حقوقية مُموّلة من حكومات غربية. تتحدّث عن الحجاب أكثر مما تتحدّث عن الفقر. تهتم بالتعليم فقط حين يكون بإمكانه أن يخدم خطاب التنمية الغربية. تدعم الفتيات، فقط حين يكنّ معاديات حكومات بلادهن، وليس عندما يطالبن بالعدالة الاجتماعية. وغالباً ما تضع قضايا النساء في خدمة الأمن القومي الأميركي أو الإسرائيلي.

أما وقد سُرد كلّ ما سبق، ليس المطلوب، بطبيعة الحال، إنكار وجود ظلم حقيقي تتعرّض له النساء في هذه المجتمعات. لكن المطلوب هو مساءلة من يحتكر سردية الظلم، ومن يختزل المرأة في دور الضحية، ومن يحتكر حقّ "إنقاذها" عبر القصف لا عبر التضامن.

• استُخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي في جمع بعض المصادر وترجمتها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows