
صُدمتُ حين رأيتُ صورتها تتصدّر مواقع التواصل الاجتماعي، وتساءلتُ: كيف يمكن أن ينمو الورد وسط كل هذا الخراب، فيما تنتشر رائحة الموت وتزكم الأنوف، بحيث تجد صعوبة في اكتشاف نذرٍ من حياة؟ وتساءلتُ أكثر عن مصدر باقات الورد الصّغيرة التي جمعتْها تلك الطفلة في صندوق، وكأنّها قد نجت من حرائق الأحلام. وعجبتُ، وأنا أرى ذلك النّور البهيَّ المُطلَّ من عينيها الحزينتَين المُتعبتَين: كيف يمكن لأحدهم أن يُلقي بذور الورد في تُربة مثخنة بالدم، ومجبولة بالأشلاء؟
وخطر لي خاطرٌ غريبٌ وخيالي، أنّ من زرع تلك البذور لا بدّ أنه قرأ تعاويذ سّحرية كثيرة قبل أن يُلقيها بين جثث الشّوارع، لكي تحيا، وتشقّ الأرض، وتُعلن عن مولد فجرٍ ربما سيأتي من دون ألمٍ وجوع.
الطفلة الصّغيرة ذات العينين السّاحرتين، واسمها تالا، تجوب شوارع المخيّم، أو ما تبقّى منها تحديداً؛ فمخيّم جباليا، وما يحيط به من مساحات صغيرة يُطلق عليها اسم "المدينة"، قد أصبح أثراً بعد عين، بعد أن عاثت آلات الموت فيه حتى أرهقته، فلم يعُد هناك سوى أطلالٍ لبيوت، وبقايا طُرُقاتٍ مهشّمة، وكأنّ زلزالاً قد ضربها.
ورغم ذلك، تصرّ الطفلة تالا على أن تحمل الوردات الحُمر، وتجوب بين أنحاء المقبرة التي لا تستطيع أن تُفرّق فيها بين الموتى فعليّاً والموتى الذين على قيد الانتظار، وتنادي بصوتٍ خافتٍ خجول: "من يشتري الورد... هناك ورد، فهل من عاشق يبحث عنه؟ ليُهدي وردةً يدسّها بين خصلات شعر حبيبته؟ وهل من عاشقةٍ يمكنها أن تسرق وردةً خلسة، وتُخفيها بين طيّات ملابسها، حتى إذا ما أصبحت وحيدةً بين سكون ليل المُحبّين، تبدأ بممارسة اللعبة الأزليّة للحبيبات المُراهقات، فتقطف الأوراق ورقةً تلو الأخرى، وتتساءل في حُبورٍ تارة، وفي خوفٍ يتراقص في قلبها الصغير: "هل يُحبّني؟"، وتُجيب عن نفسها في كل مرّة، وحين تسقط آخر ورقةٍ على الأرض، تكتشف أن الحبيب لا زال يُحبّها، وباقٍ على العهد".
الطفلة تالا العسكري، التي قتلتنا بابتسامتها، وهزّت قلوبنا مع باقات ورودها الحمراء الملفوفة بعناية، وهي تحملها بين ذراعيها، وتجوب وسط مصائد الموت في مخيّم جباليا بحثاً عن مُشترين، تتوقّف أمام عينَي شابٍ لم تجفّ فيهما الدموع، وتقرأ فيهما ما لا يُقال؛ فهو يتمنّى لو أنّ حبيبته لا زالت على قيد الحياة، لابتاع لها كل الورد. لكنه يطرق رأسه نحو الأرض التي ابتلعت جسد الحبيبة، ويُعلن أمام الورود الحمراء الصامتة أنه أصبح وحيداً، مع صراعه الأخير من أجل البقاء.
كيف واتتها الفكرة، وهي فكرة الجنون أو اليأس؟ كيف يمكن أن تفكّر طفلة، بعد كل هذا الموت المُستفحل، والضارب جذوره في هذه الأرض البائسة قليلة الحيلة، منذ ما يقارب عامين، فتُقرّر أن تحمل الورد وتطوف به بحثاً عن مشترين؟ كيف توقّعت أنّ جائعاً سوف يشتري منها وردة؟ وهل يُعقَل أن يستبدل أحدهم رغيفه بوردة؟ وهل يمكن أن تُوفَّق هذه الطفلة الصغيرة في تجارتها الصغيرة، وهي تحاول أن تُقنع فتاةً بثوبٍ أسودَ كالح، أن رائحة الورد جميلة، وأنها سوف تطغى على رائحة الفقد؟ وأنها لو وضعتها بين كفّيها، وهي تجلس وحيدةً في الخيمة، سوف تُزهِر عصافيرَ مع الفجر، وتطير نحو المقبرة، وتُقرئ أحبّتها السّلام، وتبوح لهم بكل ما في قلبها من شوقٍ وحنين؟
أرسلت الطفلة تالا العسكري إلى كل العالم رسالة، وهي تحتضن الورد وسط مقبرة الأحياء في غزّة اليتيمة؛ قالت لكل هذا العالم المُتخاذل: هناك من يستحقّون الحياة، لأنّ أرضهم ما زالت قادرة أن تهَبَ الحياة للورد والعصافير وأسراب الحمام، وأن هذه المدينة المُتّشحة بالسّواد تتكلّم بلغة الحبّ، ولا تُخفي شوقها إليه، ولا تستطيع أن تتوقّف عن الأمل بأنّ يوماً ما سيأتي، ويحمل العشّاقُ ورودَ المدينة إلى حبيباتهم المُنتظرات، لا القابعات في قبورٍ مظلمة.

Related News


