
لم يكن سقوط النظام البائد في سورية مجرّد نهاية لحقبة استبدادية، بل بداية لمرحلة حسّاسة افتقر فيها إلى خطاب وطني جامع، ما أفسح المجال أمام قوى داخلية وخارجية للتنافس على تشكيل الرواية، كل منها يسعى إلى احتكار سردية المرحلة، وفرض تصوّراته للشرعية والمستقبل، وفتح المجال رحباً للعبث بالرأي العام، وحرف مسار اهتمامه إلى موضوعات وقضايا قد لا تكون صحيحة، وإن كان فيها بعض الصحة، فهي ليست أولوية.
في هذا المشهد المبعثر، نشط الذباب الإلكتروني (وهو مصطلح يُستخدم لوصف حسابات التواصل الاجتماعي المزيفة أو الآلية، مثل الروباتات)، كمشروع مضاد، ليس لمجرّد تشويه الحقائق، بل لبناء "رواية نقيضة" تنسف إمكانية التفاهم الوطني، وتُعيد إنتاج الانقسام بأدوات رقمية. فالرواية، في هذا السياق، ليست وصفاً للأحداث، بل أداة استراتيجية لإعادة توجيه الإدراك الجمعي، وإيجاد واقع بديل تتشكل فيه الهوية، والانتماء، على أساس المصالح السياسية للقوى المسيطرة على الفضاء الرقمي.
يعمل الذباب الإلكتروني هنا بطريقة مركبة، فهو لا يُقدم سردية واحدة، بل يضخ روايات متضاربة، تزرع الشك وتُغرق الجمهور بتعدد التفسيرات، فتُصبح الحقيقة ضحيةً بين التشكيك الممنهج والتكرار المضلل. وبدل أن يكون المواطن فاعلاً في رسم ملامح المرحلة الانتقالية، يتحول إلى مستهلك لروايات مصنّعة، يختلط فيها الحقيقي بالمفبرك، والمعطى السياسي بالانفعال العاطفي، والمصلحة الوطنية بالمواقف الانفعالية المؤقتة.
لا يقف الدور التخريبي للذباب الإلكتروني عند حدود استهداف الرواية أو تفكيك الهوية، بل يتجاوزهما إلى محاولة تشكيل مزاج جمعي سلبي
تأجيج الهويات
بعد تفكيك الرواية الوطنية الجامعة، يتحرّك الذباب الإلكتروني ضمن استراتيجية أعمق وأخطر، تستهدف تحويل الانتماءات الطائفية والعرقية إلى أدوات صراع. فبدلاً من الاشتباك حول الأفكار أو البرامج، يُعاد توجيه النزاع نحو الهويات الأولية، حيث يُعاد تعريف "الآخر" لا بوصفه خصماً سياسياً، بل خطراً وجودياً، ويُشيطن وتُلصق أشنع التهم به، ويُزرع الخوف بينه وبين باقي المكونات.
تُغذّى هذه العملية من خلال محتوى رقمي محكم التصميم، يعيد توظيف ذاكرة الألم الجماعي والمظالم التاريخية بطريقة انتقائية، فتُبث رسائل تزرع الريبة بين المكونات، وتُبنى سرديات تقوم على التخويف لا على التفاهم، وتستحضر حوادث قديمة مرتبطة بظرف محدد أحياناً، وحوادث لا صحة لها على الإطلاق غالباً، وتستخدم صوراً التقطت في أماكن أخرى، قد تكون في أميركا اللاتينية أو شرق آسيا، أو غزة، وتوظيفها لتحريض السوريين بعضهم على بعض.
وقد مثّلت أحداث الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي (2025) نموذجاً ميدانياً لتفعيل خطاب الهويات الهشّة عبر الفضاء الرقمي. إذ انطلقت حينها موجة عالية الكثافة من المنشورات المضلّلة، صاغتها حسابات مجهولة الهوية، ضخّمت روايات عن تدخلات عسكرية واشتباكات طائفية لم تحدث، بهدف إثارة الفتنة وإحياء المخاوف المكبوتة داخل البنية المجتمعية. اللافت أن هذه الحملات، وفق تقارير دولية، كانت تُدار من خارج سورية، ما يُشير إلى تنسيق خارجي واعٍ لاستخدام الهويات كسلاح، عبر سرديات تُعيد فتح الجراح، أو اختلاق جراح ليست موجودة، تدفع المجتمع نحو مزيدٍ من التشظّي بدلاً من الالتئام.
تطويع المزاج العام
لا يقف الدور التخريبي للذباب الإلكتروني عند حدود استهداف الرواية أو تفكيك الهوية، بل يتجاوزهما إلى محاولة تشكيل مزاج جمعي سلبي، يُعيد برمجة وعي الجمهور السوري باتجاه اللامبالاة، وفقدان الأمل، وانهيار التصورات البديلة. في هذا السياق، لا يُستخدم التضليل فقط للتشويش، بل يُوظّف كأداة نفسية لإعادة تعريف الممكن والمرغوب والمسموح به.
تُغرق المنصات بمحتوى مشوّه، سطحي، أو ساخر، يُفرّغ الأحداث من معناها، ويحوّل النقاشات الجدية إلى مواضيع استهلاك لحظي، ما يجعل السوري في موقع المتفرج المتعب، لا الفاعل المؤمن بإمكانية التغيير. ويُعاد إنتاج لغة "الكل فاسد"، و"لا أحد يستحق الثقة"، و"لا فرق بين أحد"، وكل شيء مؤامرة، وكل الناس تحركها انتماءاتها الطائفية والقومية، كأنما المطلوب ليس فقط تقويض البدائل، بل منع الناس من تخيل وجودها أصلاً.
هنا، لا تصبح الحرب الرقمية صراعاً على الرواية فقط، بل على أفق التفكير ذاته، حيث تُخدّر الإرادة، ويُعاد تشكيل الوعي بما ينسجم مع استدامة الأزمة، لا حلها. إنها محاولة لفرض واقع افتراضي مغلق، تذوب فيه المبادرات الجادة، ويُعاد تدوير الانقسام على شكل إحباط دائم.
لا بدّ من استراتيجيات واعية وشاملة، إعلام مستقل وفعّال، وتعليم نقدي، ورقابة مجتمعية رقمية
الإمساك بالبوصلة
ما يواجهه السوريون اليوم هو معركة على مستوى الإدراك ذاته، تُدار بأدوات رقمية خفية تستهدف العقل الجمعي قبل أن تستهدف الواقع المادي. الذباب الإلكتروني، بما يضخّه من سرديات متضاربة، وخطابات كراهية، وتشكيك بالمبادرات، لا يسعى فقط لتقويض المرحلة الانتقالية، بل لإعادة إنتاج الاستعصاء التاريخي بكل أشكاله، وخنق الفرصة التي تلوح في أفق سماء سورية اليوم لتجاوز المرحلة الماضية والقطع معها ومع عيوبها.
ومع أن آثار هذه الحرب قد لا تُقاس بعدد الضحايا أو المعارك، إلا أن ضررها يمتد عميقاً في البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع، مما يجعل مواجهتها ضرورة لا خياراً. إن استعادة سورية لا تبدأ بإعادة بناء المدن فقط، بل بإعادة بناء الثقة، وترميم الوعي، وتحرير المخيلة الوطنية من قبضة التضليل الرقمي.
فإذا كانت الحقيقة تُختطف، والإدراك يعاد تشكيله، والانتماء يُستغل لتشويه المجتمع من داخله، فمن يُعيد الإمساك بالبوصلة؟... ولكي لا تتحوّل المرحلة الانتقالية إلى مجرد محطة مؤقتة في طريق طويل من الفوضى، لا بدّ من استراتيجيات واعية وشاملة، إعلام مستقل وفعّال، وتعليم نقدي، ورقابة مجتمعية رقمية، تُعيد للسوريين أدوات الفهم والمساءلة والربط، وتجعلهم شركاء في حماية الحقيقة، لا ضحايا في حرب لا تُرى.

Related News

