
انبثق مفهوم تجريم الإبادة الجماعية في القانون الدولي خلال القرن العشرين، بوصفه استجابة قانونية وأخلاقية للفظائع المنهجية المرتكبة بحق مجموعات بشرية محددة. وقد مثّلت اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 محطةً مفصليةً في هذا المسار، إذ اعتبرت الإبادة الجماعية جريمةً دوليةً تستوجب الوقاية والمعاقبة، مُحمِّلة الدول أُطرًا إلزاميةً تتجاوز حدود سيادتها التقليدية.
رغم الطابع المُلزم لنصوص الاتّفاقية، شهد تطبيقها العملي تبايناتٍ واضحةً ناجمةً عن اعتباراتٍ سياسيةٍ، ومصالح جيوسياسية، فضلاً عن لجوء بعض الدول إلى التذرع بمبدأ السيادة لتفادي الالتزامات الدولية.
يهدف هذا المقال إلى تفكيك الأساس القانوني والتاريخي لتجريم الإبادة الجماعية، وتحليل تطبيقاته في حالاتٍ تاريخيةٍ مثل الإبادة الجماعية للأرمن (1915-1923)، والسياسات الاستئصالية ضدّ السكان الأصليين في الولايات المتّحدة وكندا. كما يُسلّط الضوء على التوترات الجوهرية بين مبدأ سيادة الدولة وحقّ الضحايا في العودة، بوصفه مكونًا جوهريًا من مكونات العدالة وإعادة الاعتراف القانوني بالضحايا.
أسس الإبادة الجماعية التاريخية والقانونية
1- الجذر القانوني للمفهوم
يعود الفضل في صياغة مصطلح "الإبادة الجماعية" إلى القانوني البولندي رافائيل ليمكين، الذي استخدمه لأول مرّة عام 1944 في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة"، الذي عَرف الإبادة الجماعية بأنّها "تدمير أمةٍ أو مجموعةٍ عرقيةٍ"، وقد مثّلت هذه الصياغة نقطة تحولٍ فكريٍّ وقانونيٍّ في توصيف الجرائم الجماعية المنظّمة، وساهمت لاحقًا في تطوير مفهوم الجريمة الدولية الموجّهة ضدّ جماعةٍ محددة الهوية، سواء كانت دينيةً أو قوميةً أو عرقيةً.
شهد تهجير الفلسطينيين قسريًا ذروته في نكبة عام 1948، حيث طُرد نحو 750 ألف فلسطيني خلال تأسيس دولة الاحتلال، وسط مجازر عدّة، مثل دير ياسين، التي ساهمت في نشر الرعب، وفرض النزوح الجماعي
حاكمت محاكمات نورمبرغ (1945-1946) قادة النازية بتهمة "جرائم ضدّ الإنسانية"، لأن جريمة الإبادة الجماعية لم تكن تهمةً مستقلةً في حينه، رغم ذلك مهدت المحاكمات الطريق للاعتراف بالتدمير المنهجي للمجموعات جريمةً دوليةً فريدةً، لا تقل خطورةً عن جرائم الحرب والعدوان، بل تتجاوزها في بعض جوانبها من حيث القصد التدميري الشامل.
لقد تُوّجت جهود ليمكين والمسار التراكمي للممارسة الدولية في هذا الصدد باعتماد اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948، لتصبح أول وثيقةٍ دوليةٍ تُجرّم الإبادة الجماعية تجريمًا صريحًا وملزمًا، وتؤسس لالتزامٍ دوليٍ وقائيٍ وعقابيٍ في آنٍ واحد، حيث نصت على:
- المادة الأولى: تلزم الدول بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
- المادة الثانية: تعرف الإبادة الجماعية على أنّها: "قتل أفراد المجموعة، إلحاق أذى جسديٍ أو نفسيٍ جسيمٍ، فرض ظروفٍ معيشيةٍ، تستهدف التدمير المادي، منع الإنجاب قسرًا، نقل الأطفال قسرًا".
2- القواعد الآمرة (Jus Cogens) والالتزامات العامة (Erga Omnes)
- تُعد جريمة الإبادة الجماعية من القواعد الآمرة في القانون الدولي (Jus Cogens)، أيّ من المبادئ القانونية الأساسية التي لا يجوز مخالفتها، ولا التحلل من التزاماتها تحت أي ظرفٍ، بما في ذلك حجج السيادة الوطنية، والضرورات السياسية. كما يترتب على هذا الوضع القانوني الخاص التزامٌ جماعيٌ مطلق (Erga Omnes)، يقع على عاتق جميع الدول، ويُحتّم عليها اتخاذ التدابير اللازمة لمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها، حتّى في غياب أيّ رابطٍ إقليميٍ أو مصلحةٍ مباشرةٍ.
كذلك يؤكد المبدأ؛ أنّ مكافحة الإبادة الجماعية ليست مسؤوليةً محصورةً بدول الضحايا، أو الأطراف المتأثرة مباشرةً بها، بل هي واجبٌ قانونيٌ وأخلاقيٌ دوليٌ عامٌّ، يُفترض أن يُترجم إلى ممارساتٍ تضامنيةٍ ملزمةٍ لحماية الكرامة الإنسانية، ومنع إفلات الجناة من العقاب. رغم ذلك أظهرت التجربة التاريخية عددًا من الأمثلة الجلية على فشل المجتمع الدولي في الالتزام بهذا المبدأ، من بينها:
• الإبادة الجماعية للأرمن (1915–1923)، التي لم يُعترف بها رسميًا إلا بعد عقودٍ، على الرغم من طابعها المنهجي والمدبّر.
• الإبادة الثقافية والجسدية للسكان الأصليين في أميركا الشمالية، التي ارتُكبت تحت غطاء الاستعمار الاستيطاني، وسُوّغت بمفاهيم التفوّق الحضاري.
• السياسات الاستعمارية والعنصرية في جنوب أفريقيا، ورواندا، والبوسنة، التي أعادت طرح جدوى التدخل الدولي الجماعي في حالات الإبادة.
• واقعنا الفلسطيني المعاصر، الذي يُكرس واجباتٍ قانونيةً وحقوقيةً جديّةً حول انطباق تعريف الإبادة الجماعية على الممارسات الإسرائيلية الممنهجة بحقّ المدنيين الفلسطينيين. ذلك كلّه يدفعنا إلى الاستئناس بهذه الأمثلة من أجل الاستلهام والتفاؤل بإمكانية الخروج من موتنا الوشيك.
أ. الإبادة الجماعية للأرمن (1915-1923)
وقعت الإبادة الجماعية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، حين نفّذت السلطات العثمانية عمليات قتلٍ جماعيٍ، وترحيلٍ قسريٍ، ومسيرات موتٍ أسفرت عن مقتل نحو 1.5 مليون أرمني. ورغم تبريرها تلك الجرائم بـ"أسبابٍ أمنيةٍ"، إلّا أنّ الوثائق العثمانية والتقارير الدبلوماسية الأجنبية قد أثبتت النيّة المبيّته للإبادة.
عقب حرب (1919–1920)، حوكم بعض المسؤولين العثمانيين غيابيًا، لكن المحاكمات أُهملت مع صعود مصطفى كمال أتاتورك. لذا لا يزال الناجون، وأحفادهم يطالبون باستعادة الممتلكات والتعويض الرمزي.
صنّفت لجنة الأمم المتحدة الفرعية هذه الجرائم "إبادةً جماعية" عام 1985، كما استشهدت بها محكمة العدل الدولية في قضية غامبيا ضدّ ميانمار (2020)، باعتبارها سابقةً قانونيةً. إلّا أن تركيا ترفض هذا التصنيف، مستندةً إلى مفهوم السيادة، وتفسيرها الخاص للتاريخ، ما يعكس التوتر القائم بين تحقيق العدالة وسيادة الدول.
ب. تدمير السكان الأصليين في الولايات المتّحدة
أدى قانون إزالة الهنود في الولايات المتّحدة عام 1830 إلى درب الدموع (1838-1839)، حيث قتل الآلاف من الشيروكي، إلى جانب المذابح والحرب البيولوجية، مثل مذبحة ساند كريك (1864)، وتعميم الجدري. أيضًا مورست إبادةٌ ثقافيةٌ في المدارس الداخلية (مثل مدرسة كارلايل)، إذ فرض استيعابٌ قسريٌ للأطفال، بما يخالف المادة الثانية (هـ) من اتّفاقية الإبادة الجماعية. في سياق المساءلة القانونية والتعويضات رفعت قضية الولايات المتّحدة ضدّ كاغاما عام 1886، حينها أكّدت سلطة الحكومة الفيدرالية التعويضات، لكنها تجنبت تهم الإبادة. كما اعترفت ولاية كاليفورنيا وكندا بالإبادة الثقافية عام 2019، ضمن لجنة الحقيقة والمصالحة، لكن لم تعترف الولايات المتّحدة رسميًا بممارستها الإبادة الجماعية ضد سكانها الأصليين.
يجب تحويل قضية العضوية الكاملة في الأمم المتّحدة إلى حملةٍ كونيةٍ لفضح ازدواجية معايير مجلس الأمن، والدفع باتجاه استصدار اعترافٍ شاملٍ من الجمعية العامة، بما يُحدث شرخًا قانونيًا وأخلاقيًا في احتكار واشنطن للعمل الدبلوماسي بشأن فلسطين
نجحت بعض قبائل السكان الأصليين في استعادة أراضيها عبر المحاكم (مثل سيو باين ريدج)، لكن معظمها ظل رمزيًا، ومحدودًا جغرافيًا، ومشروطًا قانونيًا، ومنزوع السيادة فعليًا، وذلك بالرغم من إعلان الأمم المتّحدة لحقوق الشعوب الأصلية عام 2007، بما يدعم استعادة الأراضي، الذي تعارضه أميركا بقوّة حتّى الآن.
ج. حالة فلسطين: إبادة جماعية والرد الدولي
شهد تهجير الفلسطينيين قسريًا ذروته في نكبة عام 1948، حيث طُرد نحو 750 ألف فلسطيني خلال تأسيس دولة الاحتلال، وسط مجازر عدّة، مثل دير ياسين، التي ساهمت في نشر الرعب، وفرض النزوح الجماعي. ثمّ تكرّر التهجير عام 1967، بعد احتلال إسرائيل القدس الشرقية، والضفّة الغربية، وقطاع غزّة، وفرض نظام حكمٍ عسكريٍ. بعدها استمر الاستعمار الاستيطاني عبر توسيع المستوطنات، هدم المنازل، وتشريعات تمييزية عدّة أبرزها قانون القومية 2018، الذي عزّز البنية القانونية لسياسات الفصل العنصري والتهجير.
يمثّل حصار قطاع غزّة المستمر منذ عام 2007 نموذجًا لـ"الإبادة الجماعية البطيئة، وقد بلغ ذروته بين عامي 2023 و2025، حيث قُتل أكثر من 55 ألف فلسطينيٍ نتيجة القصف والتجويع، مع استخدام الحصار الكامل سلاحًا جماعيًا، في ظلّ تصريحاتٍ رسميةٍ إسرائيليةٍ تؤكّد نية الإبادة، مثل وصف الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية"، والدعوات لـ"نكبةٍ ثانيةٍ" و"تسوية غزّة بالأرض".
في هذا السياق، قدّمت جنوب أفريقيا شكوى أمام محكمة العدل الدولية بموجب اتّفاقية الإبادة الجماعية (1948)، التي أقرّت بوجود أدلةٍ "معقولةٍ" على نيّة إسرائيل ارتكاب إبادةٍ جماعية، مستندةً إلى المادة الثانية (أ–د) من الاتّفاقية.
في مايو/أيّار 2024، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (كريم خان) إصدار مذكرات توقيف بحقّ بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، لمسؤوليتهما عن جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية مرتكبة في قطاع غزّة وفلسطين، إلى جانب مذكراتٍ موازيةٍ بحقّ قادةٍ من حركة حماس.
في المقابل، تُواصل إسرائيل رفض تنفيذ القرار 194، الذي ينص على حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، معتبرةً ذلك تهديدًا ديموغرافيًا، وتُشرّع قوانين مثل أملاك الغائبين (1950) لمصادرة أراضي اللاجئين، وقانون القومية الذي يحصر الدولة بالهوية اليهودية، ما يعمّق الطابع البنيوي للفصل العنصري والتهجير القسري.
3 - القانون الدولي مقابل المعايير الجيوسياسية
بينما تُدين كلٌّ من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة سياسات إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، تستمر الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي في توفير الحماية لها من أيّ مساءلةٍ أو عقوباتٍ، ما يُجسد ازدواجيةً صارخةً في المعايير الدولية، لا سيّما عند مقارنتها بسرعة فرض العقوبات على روسيا إثر غزوها أوكرانيا، أو على ميانمار بسبب الجرائم المرتكبة ضدّ الروهينغا.
أ. حق العودة مقابل سيادة الدولة
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، في المادة 13 على حقّ الفرد في العودة إلى بلده، ويؤكّد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) في المادة 12 هذا الحقّ، مع السماح بتقييده لأسبابٍ أمنيةٍ مشروعةٍ. بناءً عليه، تطالب الشعوب المُهجّرة قسرًا بالعودة إلى أوطانها، مثل الناجين من الإبادة الأرمنية بالعودة إلى أرمينيا الغربية (شرق تركيا حاليًا)، والسكان الأصليين في أميركا الساعين لاستعادة أراضيهم وفق المعاهدات المبرمة بحقّ العودة واسترداد الممتلكات. كذلك، يتمسك الفلسطينيون بتطبيق القرار الأممي 194 الذي يُقرّ بحقّهم بالعودة والتعويض.
يؤكد المبدأ؛ أنّ مكافحة الإبادة الجماعية ليست مسؤوليةً محصورةً بدول الضحايا، أو الأطراف المتأثرة مباشرةً بها، بل هي واجبٌ قانونيٌ وأخلاقيٌ دوليٌ عامٌّ
ب. سيادة الدولة عقبةً أمام تنفيذ حقّ العودة
تُعارض تركيا عودة الأرمن إلى أراضيهم التاريخية، متذرعةً بـ"السلامة الإقليمية"، ونافِيةً أن تكون وريثةً قانونيةً للسلطنة العثمانية. على المنوال نفسه، تُقاوم الولايات المتّحدة مطالب السكان الأصليين مستندةً إلى عقيدة الاكتشاف، وقوانين الملكية المعاصرة. أما إسرائيل، فترفض حقّ العودة للفلسطينيين عبر تسويغاتٍ أمنيةٍ، وقوانين تُرسّخ التفوق اليهودي، مثل قانون القومية لعام 2018، وتستخدم هذه المنظومة القانونية لتبرير التهجير الدائم للفلسطينيين.
ج. تقييد القانون الدولي
تفتقر كلٌّ من محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية إلى أدوات الإجبار والتنفيذ الفعلي، ما يسمح للدول القوية مثل الولايات المتّحدة وإسرائيل وتركيا بتفادي المساءلة، في حين تُفرض عقوباتٌ مشددةٌ على دول أضعفٍ مثل صربيا ورواندا.
فرغم أنّ الإبادة الجماعية تُعدّ من الجرائم المحظورة بموجب القواعد الآمرة (Jus Cogens) في القانون الدولي، إلّا أن تطبيق النصوص غالبًا ما يُعطّل بفعل المصالح السياسية والسيادية. تظهر حالاتٌ مثل الإبادة الأرمنية، واضطهاد السكان الأصليين في أميركا، والجرائم الجارية في فلسطين أمثلةً حيّةً على فجوةٍ تطبيقيةٍ بين القانون والواقع، تُجهض مطالب الشعوب بالعدالة والعودة والتعويض، رغم الضمانات النظرية التي يوفرها القانون الدولي.
4- الحلول الممكنة للشعب الفلسطيني: من النضال القانوني إلى المقاومة
أولاً: المسار القانوني الدولي
أ- تعزيز الملاحقات القضائية: يُعدّ العمل القانوني الدولي أداةً مهمةً لكنها محدودة الفاعلية ما لم تُدعَم بقوّةٍ سياسيةٍ وتنظيمٍ جماهيريٍ. إنّ متابعة قضية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية (ICJ) ضروريةٌ لكشف البنية القانونية للإبادة، لكنها تصطدم بواقع عدم امتلاك المحكمة آليات الإنفاذ، لذلك، ينبغي تحويل القضية إلى أداة ضغطٍ أخلاقيٍ ودبلوماسيٍ على الدول الداعمة لإسرائيل، من خلال حشد الدعم الشعبي والبرلماني دوليًا، وتوسيع قاعدة المطالبين بتطبيق الإجراءات المؤقتة (وقف الهجوم، فتح المعابر، إلزام إسرائيل باحترام اتفاقية منع الإبادة الجماعية).
- المحكمة الجنائية الدولية (ICC): ينبغي تكثيف الجهود لدعم التحقيقات الجارية في المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، مع الإدراك أن المحكمة تخضع هي الأخرى للضغوط السياسية والتمويل الغربي. لذا يجب توثيق الجرائم بأدواتٍ قانونيةٍ قويةٍ عبر منظماتٍ فلسطينيةٍ ودوليةٍ غير خاضعةٍ للتمويل المشروط، وتفكيك السرديات الغربية التي تُحوّل الإبادة إلى صراعٍ متكافئ.
ب- مقاضاة إسرائيل أمام المحاكم الوطنية: يمكن توظيف مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام محاكم أوروبية (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا...)، شريطة تجاوز العوائق السياسية، وضمان استقلالية النيابات القضائية. على المنظمات القانونية تطوير قضايا استراتيجية قابلة للتنفيذ قانونيًا وسياسيًا، بالتوازي مع حملات ضغطٍ إعلاميٍ وقانونيٍ تكشف التواطؤ الغربي. تُظهر التجارب السابقة (مثل محاكمة بينوشيه أو القضايا السورية في ألمانيا) أنّ التقاضي العابر للحدود قابل للتفعيل إذا توفرت الإرادة السياسية والجماهيرية.
ج- ملاحقة داعمي إسرائيل
مادام النظام الدولي يعترف بمسؤولية الدول والأفراد عن المساعدة والتحريض على الجرائم الدولية، فالمعركة القانونية يجب أن تتوسع نحو:
• دولٍ تقدم الدعم العسكري والدبلوماسي رغم علمها بالانتهاكات (مثل الولايات المتّحدة وألمانيا).
• شركات تصدّر الأسلحة أو المعدات العسكرية أو تقنيات المراقبة.
• أفراد نافذون يساهمون في تمويل المشروع الاستيطاني أو يدافعون عنه سياسيًا أو قانونيًا.
لكن لا بدّ من تحويل هذا المسار من مجرد دعوات رمزية إلى آليات ضغطٍ قانونيٍ منظّمٍ، من خلال إعداد ملفاتٍ موثقةٍ، وتنظيم حملاتٍ قانونيةٍ جماعيةٍ في محاكم مختصة، على غرار حملات مكافحة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
ثانيًا؛ الضغط السياسي والدبلوماسي
أ- تعزيز الاعتراف بالدولة الفلسطينية
الاعتراف السياسي بالدولة الفلسطينية، رغم رمزيته، يحمل مضامين استراتيجية إذ ارتبط بخطابٍ تحرّريٍ جماهيريٍ لا يكتفي بالشرعية الأممية، لذلك، يجب تحويل قضية العضوية الكاملة في الأمم المتّحدة إلى حملةٍ كونيةٍ لفضح ازدواجية معايير مجلس الأمن، والدفع باتجاه استصدار اعترافٍ شاملٍ من الجمعية العامة، بما يُحدث شرخًا قانونيًا وأخلاقيًا في احتكار واشنطن للعمل الدبلوماسي بشأن فلسطين.
رغم أنّ الإبادة الجماعية تُعدّ من الجرائم المحظورة بموجب القواعد الآمرة (Jus Cogens) في القانون الدولي، إلّا أن تطبيق النصوص غالبًا ما يُعطّل بفعل المصالح السياسية والسيادية
ب- قطع العلاقات الدبلوماسية
توسيع دائرة الدول التي تعلق علاقاتها مع إسرائيل (جنوب أفريقيا، كولومبيا، بوليفيا...) عبر الضغط والتحركات الشعبية، بدل الاقتصار على نداءاتٍ رمزية. كما يجب ربط قطع العلاقات بكشف تواطؤ الدول المطبّعة مع المشروع الاستعماري، وفضح الفجوة بين ادعاءاتها بالحياد وواقع دعمها غير المباشر للاحتلال.
ت- العقوبات الاقتصادية والسياسية
تُعدّ حركة BDS أداةً فعّالةً لإعادة تعريف النضال السياسي في الغرب، لكن المطلوب هو تجاوز الطابع النخبوي والأكاديمي نحو مقاطعةٍ جماهيريةٍ شاملةٍ تربط بين دعم الاحتلال وانهيار الحقوق الاجتماعية في الدول الرأسمالية. كما يجب ربط المقاطعة بسحب الاستثمارات من الشركات الداعمة للاستيطان، وربطها بقضايا العدالة المناخية والاجتماعية، ما يوسع التحالفات عالميًا.
ث- قطع العلاقات الاقتصادية
إعادة تقييم اتّفاقيات التبادل الحر مع إسرائيل من قبل الاتّحاد الأوروبي، ودول الجنوب العالمي، التي تمثّل مدخلًا حيويًا للمواجهة، بشرط كشف تناقضات هذه الاتّفاقيات مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان. هذا يتطلب عملًا حقوقيًا وإعلاميًا منظمًا يفضح كيف تُمنح إسرائيل امتيازات تجارية رغم انتهاكاتها، ويدفع باتجاه تعليق هذه الاتّفاقيات كما حصل مع روسيا بعد غزو أوكرانيا.
ثالثًا؛ المقاومة الشعبية الفلسطينية
أ- تعزيز الوحدة الداخلية: الوحدة الوطنية لم تعد خيارًا بل ضرورةً وجوديةً، تتطلّب تحولاً جوهريًا في بنية السلطة الفلسطينية نحو تمثّيلٍ ديمقراطيٍ شعبيٍ فعليٍ، وإنهاء الانقسام عبر تنفيذ الاتّفاقات الموقعة (مثل اتّفاق الصين). فالمصالحة هي شرطٌ لاستعادة المبادرة الاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية، وتوحيد رواية النضال الفلسطيني.
ب- إشراك الشباب في القيادة: برهن الحراك الشبابي، كما ظهر في هبة القدس 2021، على إمكانياتٍ جيلٍ جديدٍ غير مرتبطٍ ببُنى الفصائل التقليدية، لذا فإنّ إدماج هذا الجيل في آليات القرار الوطني تُعدّ خطوةً نحو إعادة تجديد المشروع التحرري الفلسطيني خارج بيروقراطيات المنظّمة والسلطة.
ت- المقاومة المدنية: أظهرت مسيرات العودة، رغم قمعها الدموي، كيف أنّ الفعل السلمي يمكنه أن ينزع الشرعية الأخلاقية عن الاحتلال عالميًا. المطلوب اليوم هو استدامة هذه الأنماط النضالية وتنظيمها داخل مشروع استراتيجي يستثمر في الإعلام، والفن، والنضال النقابي، والتعليم الشعبي، لبناء جبهةٍ مقاومةٍ مدنيةٍ متكاملةٍ.
ث- التعاون مع اليهود المناهضين للصهيونية: بناء تحالفاتٍ استراتيجية مع مجموعاتٍ يهوديةٍ مناهضةٍ للصهيونية (مثل Jewish Voice for Peace) يُعدّ سلاحًا سياسيًا وأخلاقيًا يفكك احتكار إسرائيل لتمثّيل اليهودية عالميًا، ويفضح الطبيعة العنصرية الصهيونية، ويوسّع الحاضنة الأممية للمقاومة.
إنّ تجاوز الطابع المثالي في بعض المطالب يستوجب تحليلًا ماديًا للعلاقات الدولية وأدوات السيطرة الإمبريالية، إذ لا يكفي الاعتماد على القانون الدولي بوصفه حياديًا أو ديمقراطيًا، بل يجب التعامل معه باعتباره ساحة صراعٍ طبقيٍ واستعماريٍ. كما أنّ فعالية كلّ المسارات المذكورة تظلّ مرهونةً بقدرة الفلسطينيين على إعادة بناء حركتهم الوطنية على أسسٍ شعبيةٍ ومقاومةٍ جامعةٍ، تتجاوز النخب والتمثّيل الرسمي.

Related News
