اللحظة الإيرانية الكاشفة: "عقيدة نتنياهو" بدل "مبدأ كارتر"
Arab
1 week ago
share

على أعتاب مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بين العرب والإسرائيليين، أتذكر الدكتور نبيل شعث، السياسي الفلسطيني، يتحدث في قاعة مؤسسة عبد الحميد شومان في عمّان، شارحًا أنّ العلاقة الأميركية الإسرائيلية دخلت طورًّا جديدًا، لأن الوجود الأميركي المباشر الجديد في المنطقة العربية، حينها، يقلّص الحاجة لدور إسرائيل قاعدةً متقدمةً لحماية مصالح واشنطن، عمليًا تبنت السياسية الأميركية ما دعم هذا الطرح، لكن من دون التخلي عن إسرائيل.

الآن وعلى وقع الضربات الإسرائيلية الأميركية لإيران عاد السؤال هل "عاد" الدور الإسرائيلي في المنطقة، دور القاعدة المتقدمة؟  بحسب كلمات المستشار الألماني، فريدريش ميرز، في حديثه الصحافي يوم 18 يونيو/حزيران الفائت، التي قال فيها أنّ إسرائيل تقوم حاليًا بـ"العمل القذر" نيابةً عن الغرب بأكمله، وأشار إلى امتنانه للإجراءات الإسرائيلية ضدّ إيران.

في الواقع لا يرضي دور القاعدة المتقدمة غرور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وما يقوم به يصل إلى فرض أجندته الخاصّة، أيّ توريط الولايات المتّحدة والغرب لدعمه. وهو ما يحاول ترويجه منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجددًا، في مطلع هذا العام، فقال مثلًا في منتصف فبراير/شباط، أثناء مؤتمرٍ صحافيٍ مع وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو إنّه وترامب "بشكلٍ مشتركٍ" يقومان بـ "إعادة تشكيل الشرق الأوسط".

تاريخيًا تعهدت الولايات المتّحدة عبر مجموعة إعلاناتٍ رسميةٍ من رؤساء أميركيين، بحفظ أمن منطقة الخليج العربية، وعقب الثورة في إيران عام 1979، والغزو السوفييتي لأفغانستان، أعلن الرئيس الأميركي جيمي كارتر، مبدأه الشهير، الذي يؤكّد فيه مبادئ أعلنها رؤساءٌ سبقوه، وبحسب "مبدأ كارتر" في 23 يناير/كانون الثاني 1980 فإنّ أي محاولةٍ من قبل قوّةٍ خارجيةٍ للسيطرة على منطقة الخليج "ستُعتبر هجومًا على مصالح الولايات المتّحدة الحيوية، وسيُردّ عليه بكلّ الوسائل الضرورية، بما في ذلك القوّة العسكرية".

خلطت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الأوراق، كما أن إسرائيل بالأصل تريد التطبيع مجانًا من دون أيّ ثمنٍ، خصوصًا على المستوى الفلسطيني، لذا رأت إسرائيل في المشهد فرصةً لممارسة الإبادة والتطهير العرقيين

إبّان الحرب العراقية الإيرانية، (1980- 1988)، تبنت واشنطن سياسة يمكن تسميتها "الإضعاف المتبادل"، فقدمت السلاح إلى العراق (وهناك فيديو شهير للقاء وزير الدفاع الأميركي حينها دونالد رامسفيلد مع الرئيس العراقي صدام حسين)، كما قدمت في مناسبةٍ واحدةٍ على الأقلّ السلاح إلى إيران عبر إسرائيل، وهو ما عرف باسم "فضيحة "إيران- كونترا غيت"، كان الهدف منها تمكين كلٍّ من العراق وإيران من إضعاف بعضهما.

في حرب الكويت، دفعت الولايات المتّحدة مساعداتٍ ضخمةً ماليًا وعسكريًا لإسرائيل، لتقنعها بعدم دخول الحرب مباشرةً، وعدم الرد على صواريخ العراق، التي أطلقت حينها ضدّ الكيان الصهيوني، عام 1991، طبق في تلك الحرب مبدأ كارتر بوضوحٍ.

في شهر مايو/أيّار 1993، وفي إحدى "قلاع" الصهيونية الأميركية، معهد واشنطن للشرق الأدنى، قدّم مارتن إنديك، مبدأ "الاحتواء المزدوج"، الذي تبنته السياسة الأميركية في التسعينيات من القرن المنصرم، وهو أنّ واشنطن يمكنها التخلي عن سياسة تقوية العراق وإيران من أجل أن يضعفا بعضهما، وستقوم الولايات المتّحدة بفضل قواتها في المنطقة، التي انتشرت بعد حرب الكويت، بإضعاف العراق وإيران معًا، عبر فرض حصارٍ وعقوباتٍ. حينها طبق هذا المبدأ مع محاولة دمج إسرائيل في المنطقة عبر عملية السلام.

دخلت هذه السياسة طورًا جديدًا، أو مرحلة "تغيير الأنظمة"، عندما قررت الولايات المتّحدة احتلال العراق، 2003/ 2004، وكان هناك خطةٌ لإحداث تغييرٍ سياسيٍ حتّى في الدول العربية الحليفة لواشنطن، وذلك ضمن رؤية مجموعة المحافظين الجدد الأميركية التي لعبت دورًا سياسيًا حينها، وكان من ضمن أهدافها دمج إسرائيل في المنطقة.

استبدلت هذه الخطة على وقع الفشل الأميركي في العراق، ومواجهتها قوىً متعددةً، منها إيران وحلفاؤها السابقون من جماعات المجاهدين في أفغانستان، وسرعان ما قررت إدارة باراك أوباما، بدءًا من عام 2008 تقريبًا، الانسحاب من المنطقة، ومحاولة ترتيب الأوراق مع إيران عبر اتّفاقٍ نوويٍ.

أغضبت سياسات أوباما الصهاينة الأميركيين والإسرائيليين، على حدٍّ سواء، وروّج بعض أهمّ رموزهم، مثل دينيس روس، فكرة أنّ أوباما تجاهل أنظمة الخليج العربية الحليفة، وتجاهل إسرائيل أيضًا، وهذا خطأٌ ويجب العودة للتنسيق مع هذه الدول، وفي السياق ذاته جرى طرح وترويج ورعاية أصواتٍ عربيةٍ تقول إنّ هناك مصلحةٌ مشتركةٌ مع الإسرائيليين، بردع إيران والتصدي لسياسات أوباما. على هذا الأساس حظي ترامب بدعمٍ صهيونيٍ كبيرٍ، وحصل على علاقةٍ وديةٍ مع الأنظمة العربية الغاضبة من أوباما، ومن موقفه من الربيع العربي، والإخوان المسلمين. وروج لخطابٍ جديدٍ؛ هو تأجيل القضية الفلسطينية أو تجاوزها، كما أنّ حلّ القضية الفلسطينية هو نتيجةٌ محتملةٌ للسلام العربي الإسرائيلي والتصدي لإيران وليس العكس.

لكن المتغير الأساسي في منطقة الخليج العربية، وفي ما يتعلق بإيران، كان تراجع الضمانات الأميركية في حفظ أمن المنطقة. فإذا كانت حرب الكويت وبعدها احتلال العراق، تأكيدٌ على التزامٍ أميركيٍ بأمن المنطقة، فإنّ الانسحاب من العراق لم يكن المظهر الوحيد لتراجع التعهد التاريخي الأميركي بأمن المنطقة. كان مظهر التراجع الأميركي الأكبر هو حالة اللامبالاة الصريحة، التي أبداها ترامب عام 2019، عندما استهدفت إيران و/ أو حلفاؤها ناقلات النفط في مضيق هرمز، وفي منشآت النفط لشركة أرامكو السعودية، في إبقيق وخريص. جزءٌ من تراجع الاهتمام سببه تراجع اعتماد الغرب، والولايات المتّحدة على البترول والغاز المستوردين من المنطقة.

في هذه التفاعلات كلّها بدت إسرائيل غير مُطالَبةٍ بلعب دورٍ مباشرٍ في المنطقة، وحكَمَ علاقتها مع الولايات المتّحدة عوامل داخلية عدّة، أهمّها قوّة اللوبي الإسرائيلي. استخدم الخطاب الإسرائيلي إيران فزاعةً لحرف الأنظار عن المسألة الفلسطينية، واحترف نتنياهو في تقديم مزاعمٍ عن قرب إنجاز القنبلة الإيرانية النووية، كقوله في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتّحدة في سبتمبر/أيلول 2012، إنّ طهران ستمتلك السلاح النووي في ربيع 2013.

في حرب الكويت، دفعت الولايات المتّحدة مساعداتٍ ضخمةً ماليًا وعسكريًا لإسرائيل، لتقنعها بعدم دخول الحرب مباشرةً، وعدم الرد على صواريخ العراق، التي أطلقت حينها ضدّ الكيان الصهيوني

لم تلق المطالب الخليجية المتعلقة بإعادة تشكيل العلاقة مع واشنطن تجاوبًا حقيقيًا من الأخيرة، ومثلما قال السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتية، في مناسبات عدّة المطلوب اتّفاقٌ جديدٌ، وليس اتّفاقاتٍ شفوية (Gentlemen’s Agreement) على غرار إعلانات كارتر وآيزنهاور، وقال في تصريح نشرته صحيفة الشرق في 25 فبراير 2021، "مطلوب اتّفاقيةٌ استراتيجيةٌ شاملةٌ، مكتوبةٌ ومحكومةٌ بتوسيع التعاون إلى قضايا العصر، مثل الذكاء الاصطناعي، والصحة العامة، وتغير المناخ".

مع مجيء جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض، اكتشف أنّ سياسة الانسحاب من الخليج غير ممكنةٍ، فمن جهةٍ البترول والغاز الخليجيان لا غنى عنهما، خصوصًا إذ استغنيَ عن مصادر الطاقة الروسية بعد الحرب مع أوكرانيا، ومن جهة أخرى برزت بوادر تحالفٍ سعوديٍ روسيٍ بشأن النفط في نطاق تحالف (أوبك +)، كما برز تعاونٌ صينيٌ خليجيٌ، بما في ذلك رعاية بكين اتّفاقًا إيرانيًا سعوديًا لتهدئة الخلافات بينهما. من هنا طرح بايدن مشروعين لإعادة تشكيل المنطقة، فوافق على الدخول في معاهدة دفاع مشترك مع السعودية، والثانية طريقٌ تجاريٌ أوربيٌ هنديٌ خليجيٌ إسرائيليٌ ينافس طريق الحرير الصيني. ولتمرير اتّفاق دفاعٍ مع السعودية، لا بدّ للكونغرس من الموافقة، لذلك يجب إرضاء اللوبي الإسرائيلي عبر اتّفاقية تطبيع سعودية إسرائيلية، تضاف إلى الاتّفاقيات مع الإمارات والبحرين، وطرح بايدن في سبتمبر/أيلول في الهند خطة الممر الأخضر، المنافس لطريق الحرير.

خلطت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الأوراق، كما أن إسرائيل بالأصل تريد التطبيع مجانًا من دون أيّ ثمنٍ، خصوصًا على المستوى الفلسطيني، لذا رأت إسرائيل في المشهد فرصةً لممارسة الإبادة والتطهير العرقيين بحق الفلسطينيين، وأرادت تأجيل أيّ طرحٍ للعلاقات الإقليمية إلى حين إتمام هذه المهمة، وعدا قطاع غزّة والضفّة الغربية، نجحت إسرائيل في توجيه ضربةٍ كبيرةٍ لحزب الله في لبنان، وسقط النظام السوري الحليف لطهران، في دمشق، ما شجع نتنياهو، بما لديه من طموحٍ وحساباتٍ شخصية حول دوره التاريخي، وقدرته على التلاعب بالمنطقة وبالولايات المتّحدة، إلى الاعتقاد بأنّه قادرٌ على تغيير الشرق الأوسط بنفسه، عبر القوّة الإسرائيلية الذاتية، من دون اعتبارٍ لدعوات ترامب للتفاوض حول قطاع غزّة ومع إيران.

لا يملك ترامب مشاريع إقليميةً كبيرةً في الخليج، على غرار معاهدات الدفاع المشترك، أو ممراتٍ تجاريةً عملاقةً (لا يعني هذا أنّه ضدّها)، وهو ينشد تحقيق إنجازاتٍ سريعةٍ على غرار صفقاتٍ تجاريةٍ، أو تفاهماتٍ، مثل اتّفاقٍ نوويٍ جديدٍ مع إيران.

تعامل نتنياهو مع طروحات ترامب لوقف هجومه على قطاع غزّة، وبشأن المفاوضات الإيرانية الأميركية بالمماطلة، وتحين الفرص لاستكمال مخططاته.  مع انتهاء الأيام الستين التي حددها ترامب، في إبريل/نيسان 2025، للتفاوض مع طهران حول المشروع النووي، استغل نتنياهو اللحظة، وخاطب ترامب بمنطقين أساسيين، الأول اللعب على وتر غرور الأخير، بأنّه مفاوضٌ بارعٌ، كما أنّ (نتنياهو) سيخدم خططه، والثاني وفق منطق "توريط" واشنطن لتنفيذ مخططاتٍ لإعادة تشكيل المنطقة بالقوّة.

وكما يستدل من تصريحات ترامب، اعتبر أنّ الضربات الإسرائيلية وسيلة ضغطٍ على إيران للتجاوب مع المطالب الأميركية، وإضعافها تفاوضيًا، ومن ذلك قوله يوم 13 يونيو/حزيران الحالي أنّ إيران لم تستغل المفاوضات، لذا ستواجه الآن تداعياتٍ "أكثر قسوةٍ"، إذا لم يتفاوضوا. ثم جاءت الضربات الأميركية، ليعلن ترامب في 21 يونيو أنّ الضربات "نجاحّ عسكريّ مدهشّ"، وحذر إيران بضرورة "التوصل إلى سلامٍ".

قد تجد بعض الدول الغربية في هذا الوضع وكأنّ إسرائيل قد عادت لتكون قاعدةً متقدمةً لحماية مصالحها، أمّا نتنياهو، الذي يريد أن يجدد لحياته السياسية عمرًا جديدًا، فيريد أن يقول إنّه من يحدد الأجندة، والآخرين يتبعونه، لأنّهم لا يقدرون على إيقاف الإسرائيليين. ويقول نتنياهو ملخصًا عقيدته السياسية، "تحقيق السلام عبر القوّة"، في يوم 22 يونيو بعد الضربات الأميركية على إيران، "أنا والرئيس ترامب كثيرًا ما نقول: (السلام من خلال القوّة). أولًا تأتي القوّة، ثمّ يأتي السلام. واليوم، تصرف الرئيس ترامب والولايات المتحدة بقوّةٍ كبيرة".

استخدم الخطاب الإسرائيلي إيران فزاعةً لحرف الأنظار عن المسألة الفلسطينية، واحترف نتنياهو في تقديم مزاعمٍ عن قرب إنجاز القنبلة الإيرانية النووية

بدا تصريح نتنياهو الأخير خطاب انتصارٍ لسياساته، إذ يرفض المفاوضات والحلول السياسية، ويقطع الطريق على تفاهماتٍ وخططٍ خليجيةٍ لإعادة ترتيب المنطقة، ويبحث عن الإخضاع بالقوّة. عقيدة نتنياهو: بينما تحدد إسرائيل أجندة المنطقة بالقوّة، تقف القوّة الأميركية داعمةً ومتفرجةً، وتتدخل عند الحاجة لتنقذ إسرائيل.

هذا التصور الصهيوني فيه اختزالٌ، ولا يتماشى تمامًا مع المصالح الأميركية، ولا يخدم بالتأكيد المصالح الخليجية، من هنا يجد الكاتب أن هناك ثلاثة متغيرات ستحدد مسار الأحداث في المنطقة الآن، ومدى نجاح نتنياهو في فرض خططه، أولها: قدرة الدولة الأميركية (وأوروبا)، على عدم الانجرار خلفه، وتذكر أنّ مصالحها في العالم والشرق الأوسط لا تتطابق مع رؤى نتنياهو ووزراءه، وثانيها؛ مدى وقوف دول الخليج عند حاجتها لرؤى استراتيجية لمصالحها واتّفاقياتها وعلاقاتها مع الغرب، وحلّ مشكلات المنطقة بعيدًا عن أحلام وأيديولوجيات نتنياهو وتيار الصهيونية الدينية، وثالثها؛ طريقة وعملية إدارة إيران ودول المنطقة للمرحلة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows