
منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، بعد "طوفان الأقصى"، التي كانت رد فعلٍ مقاومةٍ على سياسات الفصل العنصري، والحصار والإبادة البطيئة، شهدت القارة الأوروبية موجةً من التحولات العميقة في مواقفها السياسية، والإعلامية تجاه الصراع، لم يكن التغير سريعًا أو موحدًا، بل متدرجًا ومتفاوتًا بين بلد وآخر، كما تميّز باتساع نطاقه، وشموله أطرافًا متعددةً من حكومات، وإعلام، والشارع والمجتمع المدني.
في هذا السياق، تبرز ملامح مشهد أوروبي متغير، تتحرك فيه الحسابات السياسية تحت وطأة الغضب الشعبي، وتعيد فيه وسائل الإعلام النظر في طريقة تغطيتها، ويُطرح فيه سؤالٌ أخلاقيٌ عميق حول حدود دعم إسرائيل غير المشروط، والسكوت عن المأساة الإنسانية في قطاع غزّة.
مع بداية الحرب، سارعت معظم الحكومات الأوروبية الكبرى إلى إعلان دعمها الكامل إسرائيل، مجترةً خطاب "لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن النفس". غير أن طول أمد الإبادة، وارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين، وخصوصًا الأطفال والنساء، وقدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود غير المتوقع، أحدث صدمةً أخلاقيةً داخل المجتمعات الأوروبية، وأجبرت القادة على مراجعة مواقفهم.
لذلك كان الضغط الشعبي الواسع والمنظم، الذي تجاوز الشعارات، وتحول إلى حركة ضغطٍ فعّالةٍ، امتدت من الشارع إلى الجامعات والمؤسسات، من أبرز عناصر التحول الأوروبي، وأكثرها تأثيرًا
مع مرور الوقت، تبلورت مواقف أكثر وضوحًا في دولٍ أوروبيةٍ عدّة، فقد أعلنت كلٌّ من إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا رسميًا اعترافها بدولة فلسطين، في خطوةٍ رمزيةٍ، وسياسيةٍ ذات دلالةٍ كبيرةٍ. كما ارتفعت أصواتٌ برلمانيةٌ في دولٍ أخرى، تطالب بإعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل، وفرض قيودٍ على التصدير.
كما اتخذت بعض الحكومات إجراءاتٍ ملموسةً مثل:
● أوقفت بلجيكا وهولندا وبعض الدول الإسكندنافية تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، جزئيًا أو كليًا.
● سحب صندوق الاستثمار السيادي النرويجي استثماراته من العديد من الشركات الإسرائيلية.
● فرضت بريطانيا، إلى جانب كندا وأستراليا ونيوزيلندا، عقوباتٍ على وزراء متطرفين في الحكومة الإسرائيلية، في خطوةٍ نادرةٍ تشير إلى تزايد الغضب الغربي من خطاب التحريض والعنصرية داخل حكومة بنيامين نتنياهو.
● في فرنسا، مُنعت شركات الأسلحة الإسرائيلية من المشاركة في معرض باريس للدفاع، وهي رسالةٌ واضحةٌ عن بداية تحوّلٍ في معايير التعاون العسكري.
● أما الخطوات الإسبانية فقد تجاوزت كلّ ما ذكر.
تعكس هذه الإجراءات، وإن ظلّت محدودةً مقارنة بحجم المأساة، تطورًا ملحوظًا في طريقة تعامل أوروبا مع إسرائيل، وتراجعًا عن الدعم الأوتوماتيكي.
واكب، أو سبق، تغير خطاب الحكومات الأوروبية، تغيرٌ في الخطاب الإعلامي الأوروبي الرسمي وشبه الرسمي، ففي بداية الحرب، التزمت معظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى بالسردية الإسرائيلية التقليدية، رغم أن رائحة الكذب تفوح منها بوضوح، كما ركزت على الهجمات من غزّة، بتجاهلٍ شبه تامٍ للضحايا المدنيين الفلسطينيين.
هذه الصورة بدأت تتغير، إذ بدأت صحف مثل الغارديان، وفايننشال تايمز بنشر تقاريرٍ معمقةٍ، ومقالات رأيٍ تنتقد الحرب، وتربطها بمحاولات نتنياهو استعادة شرعيته السياسية على حساب دماء الفلسطينيين. كما برزت تغطياتٌ لقصصٍ إنسانية من غزّة، واستُضيفت شخصياتٌ فلسطينيةٌ في البرامج الحوارية، وهو ما مثّل تحولًا نوعيًا مقارنةً بالتغطية الأحادية في الحروب السابقة. من المفاجأة مقالٌ في الدويتشه فيله الألمانية بذكرى النكبة، أقرب للرواية الفلسطينية من الرواية الصهيونية التي ينتهجونها.
التحول في الخطاب السياسي والإعلامي لم يكن نابعًا من صحوة ضميرٍ مفاجئةٍ، بل استجابةٍ مباشرةٍ للضغط الشعبي، الذي لم يتوقف عن محاسبة المؤسسات الإعلامية، ومطالبتها بالعدالة في التغطية، وانتقاد وحشية السياسيين ونفاقهم.
لذلك كان الضغط الشعبي الواسع والمنظم، الذي تجاوز الشعارات، وتحول إلى حركة ضغطٍ فعّالةٍ، امتدت من الشارع إلى الجامعات والمؤسسات، من أبرز عناصر التحول الأوروبي، وأكثرها تأثيرًا. حيث شهدت العواصم الأوروبية مظاهراتٍ حاشدةً ومستمرةً غير مسبوقةٍ، شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين، رافعين الأعلام الفلسطينية، ومطالبين بوقف العدوان الإسرائيلي فورًا، وقطع العلاقات العسكرية، ومحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة وداعميهم الأوروبيين.
بدأت هذه التظاهرات عفويةً، ثمّ ما لبثت أن أفرزت مجموعاتٍ منظمةً دعمت في بعض الدول من أحزابٍ ونقاباتٍ ومؤسسات المجتمع المدني، ما زاد من تأثيرها السياسي والإعلامي. بعدها تمدّد حراك الشارع، وانتشر في العديد من الجامعات الأوروبية، هولندا وبريطانيا وألمانيا وغيرهم. تحولت الجامعات إلى ساحة مواجهةٍ، اعتصم فيها الطلاب، ورفعوا مطالب واضحةً بإنهاء التعاون الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية، ووقف الاستثمار في شركاتٍ متورطةٍ في الحرب أو الاحتلال. تجاوبت بعض الجامعات مباشرةً، مما عزز من الزخم الشعبي، وأحرج حكوماتٍ كانت تحاول التزام الصمت.
كما ضغط الحراك الفلسطيني على وسائل الإعلام، انتقادات الجمهور الشديدة، وحملات المقاطعة، واعتماد منصاتٍ بديلةٍ ساهمت بتعرية الكذب والنفاق الإعلامي، إضافةً إلى عشرات الآلاف من الرسائل والعرائض المفتوحة. ساهم الضغط المتواصل في دفع المؤسسات الإعلامية الكبرى لإعادة النظر في طريقة تغطيتها، وأدى إلى تحولٍ تدريجيٍ نحو تغطيةٍ أكثر توازنًا، تُظهر المأساة الفلسطينية، وتكشف مسؤولية الاحتلال.
طول أمد الإبادة، وارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين، وخصوصًا الأطفال والنساء، وقدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود غير المتوقع، أحدث صدمةً أخلاقيةً داخل المجتمعات الأوروبية
ربما الأهمّ من ذلك كلّه هو بروز وعيٍ شعبيٍ جديدٍ، خصوصًا بين الأجيال الشابة، التي باتت ترى في القضية الفلسطينية قضيةً أخلاقيةً وإنسانيةً بامتيازٍ، تتقاطع مع قيم الحرية والعدالة ورفض الاستعمار. لم يكتف هذا الوعي بالتضامن الموسمي (الترند)، بل تُرجم إلى فعلٍ سياسيٍ، ومشاركةٍ انتخابيةٍ، وتحدٍ مباشرٍ للمواقف الرسمية المتواطئة. تجدر الإشارة هنا إلى أنه، وللمرة الأولى في أوروبا، أوشكت حكومةٌ أوربيةٌ على السقوط بسبب القضية الفلسطينية، فبعد ما اعتبر فضيحةً مدويةً في إسبانيا، نتيجة متمثّلةً بصفقةٍ بين الشرطة الإسبانية ودولة الاحتلال قيمتها 6 مليون يورو، هددت أحزاب اليسار بالانسحاب من الحكومة، ما دفع رئيس الوزراء إلى التملص من الصفقة، وإلغاء كلّ الصفقات الأخرى، ورفع سقف الخطاب، واصفاً دولة الاحتلال بـ"دولة الإبادة الجماعية".
بين الخطاب والفعل... التناقض لا يزال حاضرًا
رغم هذه التحولات المعلنة كلّها في الخطاب الأوروبي، فإنّ الواقع التنفيذي لا يزال يعاني من فجوةٍ واضحةٍ بين القول والفعل. ففي الوقت الذي تصدر فيه التصريحات الداعية لوقف الحرب واحترام القانون الدولي، تواصل بعض الدول الأوروبية علاقاتها العسكرية والتجارية الوثيقة مع إسرائيل، وتستمر في تصدير الأسلحة والمعدات، بل وتمنحها دعمًا سياسيًا غير مشروطٍ في المحافل الدولية.
يُضعف هذا التناقض من صدقية المواقف الجديدة، ويُظهر أن جزءًا كبيرًا من التحوّل قد يكون محاولةً لامتصاص الغضب الشعبي أكثر من تعبيره عن رغبةٍ حقيقيةٍ لتغيير السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية. هذا ما بدا جليًا بعد الاعتداء الصهيوني السافر على إيران، إذ سارعت العديد من الدول الأوروبية إلى اجترار العبارة نفسها "لإسرائيل الحقّ بالدفاع عن النفس"، حتّى قبل أن يبدأ الرد الإيراني، فأيّ منطقٍ هذا؟!
يزيد دعم بعض الدول الأوروبية للاحتلال الصهيوني من حدّة الانقسام الأوروبي، بينما لا تزال بعض الدول، مثل ألمانيا والنمسا، تتحصن بخطاب "المسؤولية التاريخية" تجاه إسرائيل، تتحرك دولٌ أخرى نحو خطابٍ أكثر اتزانًا وعدالةً.
أضعف هذا الانقسام الموقف الأوروبي الموحد، وأفقده ثقله قوّةً دبلوماسيةً فاعلةً في الشرق الأوسط. كما تخلّت أوروبا عن إحدى أدواتها الخطابية، "القيم الأوروبية" التي تتشدق بحقوق الإنسان، في مواجهة قوىً مثل روسيا والصين.
ختام القول، لم تترك حرب الإبادة على غزّة أوروبا على حالها، فقد كشفت عن هشاشة تحالفاتها، وازدواجية معاييرها، لكنها في الوقت نفسه أبرزت قوّة الرأي العام، وقدرته على التأثير في السياسات والإعلام معًا، وقدرة الحراك الفلسطيني على التأثير في الرأي العام.
اليوم، تجد أوروبا نفسها أمام مفترق طرقٍ، إما الاستمرار في سياسات الانحياز، التي أفقدتها مصداقيتها، أو أن تصغي بجديةٍ إلى نبض شعوبها، وتعيد تموضعها وفق قيم القانون الدولي، التي تدعيها وتتبجح بها، وحقّ الشعوب في الحرية والكرامة.
لقد تكلم الشارع الغربي، وعلى القادة أن يصغوا، ويُترجموا أقوالهم إلى أفعالٍ، لا أن يكتفوا بالتصريحات. كما على الجماهير عدم التوقف عن الضغط، والاستكانة لخطاب الساسة والإعلام الأجوف، الذي لم يصل حتّى الآن إلى حد التجذر في الخطاب.

Related News


