
رغم انتهاء الحرب في سورية ما زالت ملامحها محفورة في جدران المنازل في حلب شمالي سورية. ففي أحياء كثيرة من المدينة، تقيم عائلات كاملة في مبان مهدمة، جدرانها متشققة وأسقفها على وشك السقوط. بقايا مأوى، يضم بين جدرانه الخطر والحاجة معاً. حيث يدفع غياب البدائل، وارتفاع تكاليف السكن، وانعدام الدعم، آلاف الأسر إلى البقاء في بيوت غير صالحة للحياة، لكنها تبقى "أفضل من لا شيء" من وجهة نظرهم، في مدينة تحاول أن تنهض من رمادها، فيما يبقى سكانها يواجهون تحديات البقاء بأدوات منهكة وأمل لا ينطفئ.
وتتكرر التحذيرات من الجهات الفنية بوجوب إخلاء الأبنية الآيلة إلى السقوط، إلا أن الكثير من الأسر لا تجد بديلاً، فتختار البقاء بين الركام بدلاً من مواجهة التهجير مرة أخرى في مأساة صامتة لا تحظى بالاهتمام الكافي، وتزداد عمقاً مع كل يوم جديد.
على وقع أشعة الشمس الحارقة التي تخترق جدران منزلها المتصدعة، تجلس سليمة البكداش تضم أطفالها الثلاثة في حضنها، فيما ينشغل زوجها بمحاولة ترميم ثقب في السقف باستخدام كيس نايلون وبعض المسامير. حيث لم يتبقّ من المنزل سوى نصفه بينما تهدم نصفه الآخر بفعل الحرب. تقول سليمة: لـ "العربي الجديد": "نعرف أن بقاءنا في المنزل خطر، ونعرف أن السقف قد يسقط علينا في أي لحظة، ولكن أين نذهب؟"، مشيرة إلى الزاوية التي ينام فيها الأطفال على مرتبة إسفنجية مهترئة، بجانب نافذة بلا زجاج مغطاة ببطانية قديمة، تتنهد بحرقة وتتابع: "نحن لا نعيش هنا، نحن ننتظر الموت كل يوم، كل صوت قوي في الليل يجعلنا نقفز من أماكننا، نظن أن الجدار انهار أو السقف سقط".
زوج سليمة كان يعمل سابقاً في النجارة، لكنه فقد عمله بعد أن تضررت ورشته في الحرب، واليوم، يعتمد على أعمال يومية لا تكاد تمسك رمق العائلة. وتعاني عائلة سليمة عدم توافر الكهرباء في المنزل فتعتمد على مصباح صغير يعمل بالطاقة الشمسية، أما المياه فتوفرها صهاريج متنقلة تمر مرة أو مرتين في الأسبوع، وبأسعار مرتفعة.
لا يقي المنزل عائلة سليمة برد الشتاء ولا حر الصيف، في الشتاء، يتسرب الهواء البارد من كل فجوة، بينما تنهمر المياه من السقف إذا أمطرت. وفي الصيف، تتحول الجدران الإسمنتية إلى أفران، تقول سليمة: "في الشتاء، نلف أنفسنا بالأغطية المهترئة، لكن البرد يدخل من تحت الأبواب ومن بين الشقوق. وفي الصيف، نبلل المناشف ونضعها على الأطفال حتى لا يحترقوا من الحر". وتطالب سليمة الجهات الرسمية أو الإنسانية بتقديم المساعدة، فهي ومع كل هذه المعاناة، لا تفكر في الرحيل. "ببساطة، لا مكان نذهب إليه، أجرة بيت صغير اليوم 900 ألف ليرة سورية، بينما لا نجد في جيوبنا ما نمسك به رمق أطفالنا. لا نريد أكثر من مكان آمن نقيم فيه من دون خوف".
في حي كرم الطراب شرق حلب، تصطف عشرات البيوت التي لم تعد تصلح حتى لأن تسمى بيوتاً، لكنها ما زالت مأهولة. كثير منها بلا أبواب، وبلا نوافذ، وبلا خدمات أساسية. الكهرباء لا تصل إلا ساعات محدودة في الأسبوع، والماء يجلب بالدلو من صهريج متنقل يمر كل صباح. يقول أحمد الأخرس وهو أب لأربعة أطفال ويعمل عاملًا بأجر يومي وأحد القاطنين في الحي: "كنا نازحين لست سنوات مضت وحين عدنا وجدنا بيتنا نصفه مدمر، اضطررنا إلى البقاء لأننا لا نملك المال الكافي لاستئجار منزل، ولا حتى تكلفة الانتقال وأنا لا أكاد أستطيع تأمين 30 ألف ليرة سورية في اليوم أي ما يعادل ثلاثة دولارات فقط".
ويضيف: "أخبرنا بعض المهندسين المتطوعين أن البناء غير آمن، لكن لم تتواصل معنا أي جهة حكومية، ولم تعرض علينا أي بديل، ولا يمكنني التفكير في إصلاح البيت، ولا حتى تغطية نوافذه المفتوحة، فكل ما أجنيه ينفق في اليوم ذاته، بينما الحرارة خانقة، والغبار يدخل من كل مكان، أما الأطفال، فدائماً مرضى، بين الربو والحساسية والتهاب الحلق".
في الحي ذاته تسكن أكثر من 150 عائلة في مبانٍ صنفت من قبل خبراء أنها "غير صالحة للسكن"، وفي حديثه لـ"العربي الجديد"، أوضح المهندس وائل الحسن أن الكثير من الأبنية في الأحياء الشرقية من حلب، مثل كرم الطراب والصاخور ومساكن هنانو وغيرها، أصبحت من الناحية الهندسية غير قابلة للسكن منذ سنوات، لكنها لا تزال تؤوي آلاف العائلات التي لا تملك بديلاً. واعتبر أن السكن في تلك المباني يعد خطراً صامتاً، فالمباني المتضررة تحمل أعباء أكبر من قدرتها الهيكلية. وكثير منها بني أساساً بطريقة شعبية من دون إشراف هندسي، وتعرض لاحقاً لقصف مباشر أو اهتزازات شديدة خلال الحرب، ثم زاد الزلزال من التشققات، ما جعلها على حافة الانهيار. ويشرح المهندس لـ" العربي الجديد"، أن أغلب البيوت المتضررة تعاني مشكلات مثل ضعف في الأعمدة الحاملة، وتشققات أفقية وعمودية في الجدران والواجهات، وهبوطات في الأساسات نتيجة تسربات المياه، واهتراء الحديد داخل الخرسانة بسبب الرطوبة المكشوفة. قائلاً: "أحياناً نرى أن الجدار ما زال قائماً، لكن المشكلة تكون في ما لا يرى بالعين المجردة، مثل صدأ الحديد وانفصال طبقات الخرسانة، وهي عوامل تجعل المبنى مهدداً بالسقوط فجأة دون مقدمات".
ويرى الحسن أن الحلول ليست مستحيلة، لكنها تتطلب إرادة وتخطيطاً مرحلياً عبر إجراء مسح هندسي دقيق للأبنية في الأحياء المهددة، وتحديد مستويات الخطورة (عالية، متوسطة، منخفضة) وفق معايير معترف بها هندسياً، وإخلاء المباني المصنفة شديدة الخطورة فوراً، حتى لو استلزم الأمر تأمين سكن مؤقت ضمن مدارس أو مراكز إيواء، والبدء بتنفيذ ترميمات إسعافية للمباني المتوسطة الخطورة، باستخدام تقنيات تقوية الجدران، وتدعيم الأعمدة والعقدات الإسمنتية، وإطلاق مشاريع إسكان بديلة بسيطة ومنخفضة التكاليف، ضمن أطراف المدينة، بتمويل مشترك بين الدولة والمنظمات. ويؤكد أن اعتماد مواد بناء منخفضة الكلفة وذات كفاءة عالية، مثل الطوب المضغوط أو الهياكل المعدنية الخفيفة، يمكن أن يسرع الحلول ويوفر بدائل سريعة وآمنة. ويقول: "لا نتحدث عن إعادة إعمار بمليارات، بل عن إنقاذ أرواح، يمكننا خلال سنة واحدة تأمين مساكن آمنة لعشرات العائلات، فقط لو تم تنظيم الجهود". ويحذر قائلاً: "استمرار الوضع على ما هو عليه يعني أننا أمام سيناريو كارثي. إذا سقط مبنى مأهول فجأة، فستكون الخسائر فادحة، ليس فقط بالأرواح، بل في الثقة والإنسانية. علينا أن نتحرك قبل فوات الأوان".

Related News
