
في أعالي جبال وصاب السافل بمحافظة ذمار، وسط اليمن، لا شيء يشغل السكان أكثر من البحث عن قطرة ماء، فالعطش بات عنوانًا يوميًا لمعركة لا تنتهي، وسط جفاف قاسٍ وصمت رسمي يُضاعف المعاناة ويعمّق جراح وصاب المنسية.
بشكل يومي تقطع النساء والأطفال الكيلومترات فوق رؤوسهم جوالين الماء، وعلى ظهور الدواب، في رحلة شاقة نحو الحياة، الاف الأسر تواجه جفاف الآبار، ومياهًا ملوثة لا تصلح للشرب، بينما تتآكل الثروة الحيوانية، وتتعطل الحياة، وسط صمت يضاعف المعاناة.
يقول خادم أحمد دهمش (52 عامًا) بنبرة يملؤها اليأس: “لم نرَ مثل هذا الجفاف من قبل، وكأن السماء قد أغلقت أبوابها عنّا”. حاله كحال كثيرين في قرى عزلة القراقرة، حيث يضطر السكان للسير لساعات من أجل ملء قوارير لا تكفي احتياجاتهم اليومية.
مواضيع مقترحة
-
الجفاف يهدد ينابيع المياه: نقص الأمطار يفاقم معاناة اليمنيين
-
اليمن تتحمل عبئاً أكبر.. ما مستقبل الموارد المائية في العالم؟
-
تعز.. شحة المياه في “بني يُوسف” معاناة مستمرة
جفاف غير مسبوق
ويؤكد عيدي الجراجري من قرية “جراجر” أن الأهالي باتوا يتزاحمون على بئر “ناجي” بعد أن جفّت آبارهم القديمة، قائلًا: “القرى المجاورة مثل بني مُزيج، الحَبق، أبلم، المصابح، طلحة، وباخش كلها تقصد هذا البئر… الوضع مأساوي”.
ويضيف: “حتى الحيوانات باتت تسقط ميتة من العطش والجوع، نرى الماعز والبقر ممددة في السهول بلا حراك”. أما الأطفال في قرية “الدهمش” فيمضون يومهم في قطع مسافات تتجاوز الساعتين ذهابًا وإيابًا إلى “عزلة بني لاهب” أو “بئر ناصر”، لجلب 40 لترًا فقط، لا تكفي الأسرة ولا المواشي.

“المواشي تموت أمام أعيننا”، يقول عايض قحطان. “المزارع جفت، والآبار لم تعد تُنتج، والثروة الحيوانية في خطر”. ويضيف الخادم: “نرى الأغنام والحمير تموت في الوديان. الوضع مفجع”، والمياه المتوفرة في بئر “الدهمش”، الواقعة على بعد 5 كيلومترات، مالحة ومليئة بالترسبات، وتسببت في أمراض مثل التهابات المسالك البولية والكلى، كما أن بئر “القراقرة” غير محمية، لكنها الملاذ الأخير للسكان.
صمت رسمي
رغم شكاوى الأهالي ومناشداتهم المستمرة، لم تلبِ الجهات الرسمية النداء، ويقول المواطن الخادم بأسى: “لم يتواصل معنا أحد.. المجلس المحلي غائب تمامًا”. أما قحطان فقال: “منذ 2004 وعدونا بمشروع غطاس للماء.. ومن يومها لم نر سوى الوعود المتطايرة”.
ويردف:” حتى الآبار الارتوازية التي تم حفرها في الثمانينات، تقادم بها الزمن، وتهالكت أنابيبها، ولم تتم صيانتها قط. واحدة في قرية “الدهمش”، وأخرى في “الوادي” بعزلة “الأثلاث”، كانتا تكفيان عشرات القرى، لكنها اليوم صارتا مجرد ذكريات.
يؤكد الصحفي عبدالله حمود الفقيه، من أبناء المنطقة، أن ما تعيشه وصاب اليوم من موجة جفاف ليست الأولى، لكنها الأعنف، فالسكان يشكون منذ سنوات من شحّ الأمطار وتدهور حياتهم، واضطر كثير منهم للهجرة، ومن بقي يبيع مواشيه لأن ما تنتجه الأرض لا يكفي لإطعام حيواناتهم والبعض يكتفي ببقرة واحدة بالكاد يطعمها.
ويضيف: ” يتكبد الناس عناء جلب الماء من مناطق بعيدة، يضطرون للشرب من الآبار قليلة الماء شديدة التلوث بالترسبات ما أسهم في انتشار الإصابة بأمراض الكلى التي تصل إلى الفشل الحاد، حتى النحالون غادروا بمناحلهم إلى مناطق أقل قسوة، ومن بقي يخشى الخسارة”.

معاناة صحية
الدكتور طلال الجرفي، مدير الوحدة الصحية في الأجراف، يؤكد أن الجفاف فاقم من انتشار الاسهالات، الأميبيا، التهابات الكلى، والجرب، خاصة في ظل انعدام النظافة بسبب شح المياه، ويضيف: “سعر 20 لترًا من الماء يتجاوز 500 ريال، وهو ما لا يطيقه أغلب السكان”.
وفي محاولة لجلب الماء، ينتظر الناس لساعات طويلة في طوابير، وينام البعض بجوار الآبار، دون طعام، ويطالب الدكتور الجرفي بحفر آبار ارتوازية وتوصيل خطوط مياه من أودية مجاورة مثل وادي سخمل أو زبيد لإغاثة الناس ومنع حلول الكارثة.
وبحسب الأمم المتحدة يواجه نحو 17.8 مليون شخص نقصًا حادًا في المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحّي، مما يُسهم في تفشّي الأمراض المنقولة عبر المياه، مثل الكوليرا والإسهال الحاد. كما أن أكثر من 30% من السكان اليمنيين لا يمكنهم الوصول إلى شبكة مياه صالحة، مما يجبرهم على المشي لمسافات طويلة لجلب المياه، مما يزيد من معاناتهم.
ويحذر الخبير البيئي طارق حسان، عضو المنتدى الوطني للتنمية المستدامة، قائلًا: “وصاب اليوم تمثل جرس إنذار لما يمكن أن يحدث في بقية المناطق الريفية”. ويشير إلى أن متوسط درجات الحرارة ارتفع 1.8 درجة مئوية، بينما انخفضت معدلات الأمطار بأكثر من 20% خلال العقود الثلاثة الماضية.
وأضاف خلال حديثه لمنصة ريف اليمن، أن 65% من آبار وصاب شهدت تراجعًا خطيرًا، ما أجبر المزارعين على ترك أراضيهم، ودعا إلى حلول فورية تشمل بناء خزانات حصاد، إدخال تقنيات ري حديثة، دعم زراعات مقاومة للجفاف، وتشكيل لجنة وطنية لإدارة الأزمة.

وأكد حسان أن أكثر من 149 ألف نسمة في وصاب السافل يعيشون دون شبكات مياه منتظمة، وتُجبر النساء والفتيات على قطع مسافات تتجاوز 5 كيلومترات يوميًا للحصول على الماء، ما يؤثر سلبًا على صحتهن وتعليمهن.
وأضاف أن ما تشهده “وصاب” اليوم ليس مجرد تحدٍ بيئي عابر، بل هو مؤشر خطير يستدعي تحركاً وطنياً شاملاً، فالأزمة، في جوهرها، ليست بيئية فحسب، بل هي أزمة تنموية وإنسانية تتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تتجاوز الحلول الجزئية، وتضع في اعتبارها الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للأزمة.
مؤكدا أن الحل لا يكمن فقط في البنية التحتية، بل في التوعية والمشاركة المجتمعية، مشيراً إلى أهمية إطلاق برامج تعليمية وتثقيفية ترفع وعي السكان المحليين بأهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية وتدريبهم على ممارسات الزراعة المستدامة.
ويعتبر خبراء دوليون بأن اليمن يمثل الشاهد الأبرز -من بين أماكن قليلة في العالم- على تكشف التهديدات التي يفرضها تغير المناخ، وتُعد الأزمة المائية في اليمن من أكثر التحديات الإنسانية تعقيدًا، لا سيما في المناطق الريفية التي تشكل نحو 70% من إجمالي السكان؛ إذ يعاني نحو 49% من اليمنيين من نقص حاد في الوصول إلى مياه نظيفة وصالحة للشرب.
The post ذمار.. وصاب السافل تُصارع العطش بلا حلول first appeared on ريف اليمن.