
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يسعى إلى أن تشعل حربه مع إيران ثورة شعبية ضد نظام الجمهورية الإسلامية، فقد عززت الهجمات التي شنتها تل أبيب ضد طهران مشاعر القومية الوطنية والوحدة في البلاد حتى بين صفوف المعارضة.
وكان تغيير النظام في إيران هو أحد أهداف الحرب بالنسبة لإسرائيل، إذ خاطب نتنياهو الإيرانيين قائلاً: “نحن أيضاً نمهد لكم الطريق لتحقيق حريتكم”.
وفاجأ هذا الشعور الجديد بالوحدة، في بلدٍ مُنقسمٍ في السابق، المراقبين والسياسيين في الداخل والخارج، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
— عربي بوست (@arabic_post) June 25, 2025
عاجل | المتحدث باسم الخارجية الإيرانية: #إيران استطاعت أن تنهي المعركة لصالحها، رغم كونها غير متكافئة pic.twitter.com/Nxo6I5dG7d
ورصدت كتابات غربية عدة كيف أعادت تل أبيب إحياء القومية الإيرانية وكيف التف الإيرانيون حول علم بلادهم بينما كانت إسرائيل تقصف المواقع النووية في البلاد وتستهدف برنامج الصواريخ الباليستية الطموح لطهران.
وقال الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، في مقال نشره موقع ميدل إيست آي: “نجح النظام في حشد الأمة بدلاً من تقسيمها، ولو بدافع الغضب القومي من هجوم إسرائيل غير المبرر”.
الالتفاف حول العلم
وقال محمد إسلامي، أستاذ مساعد للعلاقات الدولية بجامعة مينهو البرتغالية: “يبدو أن إسرائيل نسيت درساً من الغزو العراقي لإيران في عام 1980. فبدلاً من إحداث تغيير في النظام، أدى هذا الغزو إلى حشد الشعب الإيراني خلف الجمهورية الإسلامية باسم القومية، وليس بالضرورة بدافع الحب للنخبة الدينية”.
وأضاف إسلامي في مقال نشره موقع ميدل إيست آي جاء تحت عنوان: “لماذا تأتي هجمات إسرائيل بنتائج عكسية بينما يتجمع الإيرانيون حول العلم”، إنه وبدلاً من تأجيج المعارضة الداخلية، أشعلت الضربات الإسرائيلية الأخيرة شرارة تجدد المشاعر القومية — التي لم تركز على دعم النظام، بل على الدفاع عن الأمة.
وتابع: “أقيمت مراسم حداد عامة ونُشرت التعازي عبر الإنترنت. حتى أن بعض من كانوا منتمين سابقاً لحركة ‘المرأة، الحياة، الحرية’ المعارضة بدأوا يُعربون عن تضامنهم مع من يُصوّرونهم الآن ‘حماة الوطن'”.
وفي الأحياء العمالية والمناطق الريفية، حيث كافحت حركات المعارضة من أجل اكتساب موطئ قدم، أصبحت هذه المشاعر أقوى.
وأتت محاولة إسرائيل لفصل الشعب الإيراني عن دولته بنتائج عكسية، على الأقل حتى الآن. ولم يكن رد الفعل السائد داخل إيران هو الابتهاج أو الانتفاضة، بل الالتفاف حول العلم – وهي ظاهرة مألوفة لدى من يدرسون آليات الصدمة الوطنية والتهديد الخارجي، بحسب إسلامي.
لحظة حاسمة للمعارضة
وفي حين أن الهجمات الإسرائيلية استهدفت قيادات أمنية سحقت احتجاجات سابقة، قال نشطاء إنها تسببت أيضاً في خوف واضطراب كبيرين لدى المواطنين وغضب تجاه إسرائيل، وفق تقرير لوكالة رويترز.
ونقلت وكالة رويترز عن أتينا دايمي، وهي ناشطة بارزة قضت ست سنوات في السجن قبل أن تغادر إيران، قولها: “كيف يفترض أن يخرج الناس إلى الشوارع؟ في مثل هذه الظروف المروعة، يركز الناس فقط على إنقاذ أنفسهم وعائلاتهم وحتى حيواناتهم الأليفة”.
وعبرت نرجس محمدي، الناشطة الإيرانية البارزة والحائزة على جائزة نوبل للسلام، عن مخاوفها في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي. ورداً على تحذير إسرائيلي بإخلاء أجزاء من طهران، كتبت قائلة: “لا تدمروا مدينتي”.
وقالت ناشطتان تحدثت إليهما رويترز في إيران إنهما لا تعتزمان التظاهر، وكانتا من بين مئات الآلاف الذين شاركوا في احتجاجات حاشدة قبل عامين بعد وفاة الشابة مهسا أميني في أثناء احتجازها.

وقالت إحداهما، وهي طالبة جامعية في شيراز وطلبت عدم نشر اسمها حرصاً على سلامتها: “بعد انتهاء الهجمات، سنرفع أصواتنا لأن هذا النظام مسؤول عن الحرب”.
وقالت الثانية، والتي فقدت مقعدها الجامعي وسجنت لخمس أشهر بعد احتجاجات 2022 وطلبت أيضاً عدم نشر اسمها، إنها تؤمن بتغيير النظام في إيران لكن الوقت لم يحن بعد للنزول إلى الشوارع.
وأضافت أنها وصديقاتها لا يخططن لتنظيم مسيرات أو الانضمام إليها ورفضن الدعوات الخارجية للاحتجاج. وقالت: “إسرائيل ومن يسمون قادة المعارضة في الخارج لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية”.
من جانبه، انضم رضا كيانيان، الممثل الإيراني المخضرم وأحد معارضي النظام الإيراني منذ فترة طويلة، سريعاً إلى صفوف المعارضة التي احتشدت حول العلم، في إطار موجة الحماسة الوطنية التي اجتاحت البلاد التي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة منذ بدء الحرب التي امتدت 12 يوماً.
وبينما استخدم كيانيان صفحته الشهيرة على منصة إنستغرام للتشكيك في مبادئ أيديولوجية النظام، كتب كيانيان بعد بدء الحرب: “إيران كانت موجودة، ولا تزال موجودة، وستبقى”.
وقال كيانيان، البالغ من العمر 74 عاماً، لصحيفة فاينانشال تايمز: “لا يمكن لشخص واحد يجلس خارج إيران أن يأمر شعباً بالانتفاضة. إيران بلدي. سأقرر ما سأفعله، ولن أنتظر أن تُملي عليّ ما سأفعله في بلدي”.
تعزيز النظام للقومية الإيرانية
ويأتي هذا الاستيقاظ للقومية الإيرانية ــ الذي يأمل السياسيون أن يستمر حتى لو عاد الغضب تجاه الجمهورية الإسلامية إلى السطح ــ بعد عقود من الاستقطاب العميق، بحسب فايننشال تايمز.
ولطالما حاول حكام إيران قمع توق أمتهم المتزايد نحو التغيير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مستجيبين للاضطرابات بحملات قمع وحشية. وذكرت منظمة العفو الدولية أن أكثر من 300 شخص قُتلوا خلال احتجاجات عام 2022 التي اندلعت على سبيل المثال إثر وفاة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عاماً، أثناء احتجازها لعدم ارتدائها الحجاب بشكل صحيح، مما ترك ندوباً عميقة في نفسية الأمة.
ورغم أن الجمهورية الإسلامية خففت منذ ذلك الحين من قواعد الحجاب، فإن العديد من الإيرانيين يشعرون بعدم الرضا الشديد عن حالة الاقتصاد، ويكافحون للتعامل مع التضخم والعقوبات الأمريكية، ويشعرون بالغضب إزاء الفساد المزعوم بين أولئك المرتبطين بالنظام.
ولكن عندما شنت إسرائيل هجومها في 13 يونيو/حزيران، قرر الإيرانيون سريعاً أن هذه ليست لحظة التغيير التي كانوا يأملونها.
— عربي بوست (@arabic_post) June 26, 2025
المرشد الإيراني: أي اعتداء علينا سنواجهه بتكرار استهداف القواعد الأمريكية، وترامب بالغ في تضخيم حجم الهجوم الأمريكي، لكنه يعلم الحقيقة.
الذين ضخموا حجم الهجوم الأمريكي علينا هم أنفسهم من قلّلوا من حجم ضربتنا على القاعدة الأمريكية.
الشعب الإيراني العظيم أظهر أنه، عندما… pic.twitter.com/bQg8vV5bqr
صدم القصف الكثيرين، والذي قالت إسرائيل إنه كان يستهدف أهدافاً للنظام، بينما قال مسؤولون إيرانيون إنه أسفر عن مقتل 627 شخصاً وتدمير 120 مبنى سكنياً في طهران، قبل أن ينتهي بوقف إطلاق نار هش، الثلاثاء 24 يونيو/حزيران.
وقالت مريم، وهي ربة منزل تبلغ من العمر 39 عاماً وناقدة للنظام: “شعرنا بأننا عالقون بين قوى لا تسعى إلا لتحقيق طموحاتها الخاصة، لا لرفاهيتنا”.
وأضافت: “ذكّرنا نتنياهو بأننا قد نخسر حتى القليل الذي نملكه. وبهذا المعنى، خدم الجمهورية الإسلامية عن غير قصد، مما قلل من أملنا في التخلص من هذا النظام”.
ومن أجل تجنب إثارة ردة فعل شعبية خلال الحرب، قلل النظام أيضاً من أهمية أيديولوجيته الاستقطابية، والتي تعتبر الولايات المتحدة وإسرائيل أعداء أبديين، وتعتبر الإسلام الشيعي هو الحل لجميع المشاكل.
وسعت اللافتات التي تم رفعها في طهران إلى تعزيز القومية بدلاً من نقاط الحديث النظامية، وأشاد المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، الخميس 26 يونيو/حزيران، بما أسماه “الوحدة غير العادية” للبلاد.
وقال في كلمة مصورة، ركز فيها على إيران كأمة لا على النظام الديني الحاكم، ساعياً بوضوح إلى الحفاظ على وحدة الإيرانيين: “أمة قوامها 90 مليون نسمة توحدت وقاومت بصوت واحد، متكاتفين دون إثارة خلافاتهم”.
وأضاف: “بات جلياً أنه في الأوقات الحرجة، يُسمع صوت الأمة”.
وسعى المسؤولون إلى إطالة أمد هذه الحماسة الوطنية من خلال وصف الصراع بأنه “انتصار”، على الرغم من الضربات الموجعة التي تلقاها النظام والجيش والبرنامج النووي الإيراني.
وقال أحد المطلعين على بواطن الأمور في النظام: “دعونا لا ننسى أنه لم تكن هناك احتجاجات مناهضة للحرب في الشوارع، وأن الحكومة حرصت على توفير إمدادات كافية من الغذاء والوقود في كل مكان”.
حشد الدعم للبرنامج النووي الإيراني
ويبدو أن الحرب، في الوقت الحاضر على الأقل، قد عززت بعض الدعم المحلي لبرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، والحملة التي تشنها الحكومة على المتعاونين المزعومين مع إسرائيل، وحتى الحماس للحصول على قنبلة نووية ــ وهو الأمر الذي تقول الجمهورية الإسلامية إنها لا تسعى إلى تحقيقه.
ولكن الحفاظ على هذه الوحدة لن يكون سهلاً، حيث يدعو منتقدو النظام ــ الذين لم تختفِ قائمتهم الطويلة من المظالم تجاه حكامهم ــ إلى المحاسبة بشأن دور الجمهورية الإسلامية في وضع إيران على طريق الحرب.
وبحسب الكاتب إسلامي، من السابق لأوانه الجزم بأن هذه الوحدة ستدوم. فالمجتمع الإيراني لا يزال ممزقاً بعمق، ويعاني من انقسامات أجيالية وأيديولوجية واقتصادية.

وقال الممثل كيانيان إن المتشددين داخل النظام، بما في ذلك على شاشة التلفزيون الحكومي، يجب أن يتحملوا المسؤولية عن مدى مساهمة سياساتهم في الصراع.
وقال: “يُرددون على شاشات التلفزيون أننا جميعاً متحدون، من اليسار إلى اليمين. استغرق الأمر منهم وقتاً طويلاً ليدركوا أننا متحدون، ولم يُصرحوا بذلك إلا عندما لم يكن هناك خيار آخر في زمن الحرب”.
وبالنسبة للعديد من الإيرانيين، لا ينبغي للجمهورية الإسلامية أن تعتبر هذا التضامن الوطني أمراً مفروغاً منه، وأن تواصل سياساتها الأكثر إثارة للانقسام، مع استمرار تفاقم جميع القضايا التي أغضبت الإيرانيين على مر السنين.
ونقلت فايننشال تايمز عن المحلل السياسي الإصلاحي، فياض زاهد، قوله: “إن ما أنقذ إيران ليس أيديولوجية وهمية، بل تاريخها القديم… وتجربة النجاة من غزوات الإسكندر والمغول والعرب”.