من رافعة للقضية إلى آلة لصناعة الأعداء: الانتقالي، يُمَثِّل الجنوب أم يُحاربه؟
أهلي
منذ 3 أيام
مشاركة

في منطق السياسة المختزلة، حين تعجز الفكرة عن إقناع الناس، لا يبقى أمامها سوى تشويههم. هكذا ينظر المجلس الانتقالي الجنوبي إلى أي صوتٍ لا يصطف في مربّعه: إخونجي، حوثي، قاعدي، داعشي…. سلّة اتهامات تُرمى دفعةً واحدة، بلا أدنى اكتراث بالفوارق الفكرية والعقائدية والسياسية الشاسعة بين هذه التسميات، وكأن الاختلاف ذاته صار جريمة، وكأن السياسة لا تحتمل سوى لونٍ واحد وصوتٍ واحد. هذا التصنيف الكسول لا يعكس قوةً ولا ثقةً بالنفس، بقدر ما يكشف عن مأزقٍ عميق: مأزق مكوّنٍ لا يعرف كيف يدير التعدد، فيلجأ إلى الأمننة، ولا يجيد الرد بالحجج، فيستدعي فزّاعات جاهزة. فحين يُختزل الخصم في «تهمة»، يُعفى العقل من التفكير، ويُعفى الخطاب من التماسك، ويُفتح الباب واسعاً أمام العنف الرمزي، وربما المادي.

ولعل المثال الأوضح على هذا الانزلاق، وكيف يتحول تشويه الخصوم إلى مهزلة، ما وصل إليه بعض إعلاميي الانتقالي في توصيفهم لخصومهم ماحدث منهم مؤخراً مع رئيس التحرير الأسبق لصحيفة الشرق الأوسط والكاتب المعروف عبدالرحمن الراشد. فمن أبعد ما يذهل العقل أن يذهب بعض إعلاميي الانتقالي – ولا سيما حين يصدر ذلك عن الناشط هاني مسهور، الذي يُفترض أنه من أعقلهم قبل أن يمد أبي حنيفة النعمان قدميه يوم أمس – إلى حد اتهام الكاتب السعودي المعروف، عبد الرحمن الراشد، بالتبعية للمرشد، وأن ما يكتبه مجرد «إملاء محض، ليس من بُنيَّات الراشد، بل من كُوَّةِ المُرشد» في إشارة مزدوجة للمرشدين: الأعلى الإيراني والعام لجماعة الإخوان! أي منطق هذا الذي يُخضع إرثاً ضخماً من التحليل السياسي العميق، والكتابة الحرة، والحضور الدولي المرموق، لمثل هذا الوصف المبتذل؟ يبدو أن لعبة التشويه والتبسيط المخل قد تحوّلت عندهم إلى فن، بحيث يصنع خصم وهمي أكثر من الواقع نفسه، ويُحوَّل الحوار السياسي الجاد إلى مسرح عبثي من التهم الجاهزة والاستنتاجات المبالغ فيها، والتسطيح الفاضح الذي يفوق التصور.

ولا يستهدف هذا النقد كل منضوي تحت مظلة المجلس الانتقالي بوصفه كياناً بشرياً متنوعاً، بل يتناول منطقاً سياسياً وخطاباً عملياً بات هو الغالب والمُعرِّف لسلوكه العام. كما أن التحذير من ارتدادات هذا المنطق على الإقليم لا يُقدَّم بوصفه اتهاماً مباشراً، بل قراءة استباقية لمسارٍ تاريخي أثبت أن العنف حين يُشرعن داخلياً نادراً ما يعترف بحدود الجغرافيا.

لكن منطق المرآة قاسٍ، والسياسة لا ترحم من يبالغ في تبسيط خصومه. فإذا كان المجلس الانتقالي يرى كل معارضيه أدواتٍ لمشاريع مظلمة، فمن الطبيعي أن يُنظر إليه، في المقابل، بوصفه مكوّناً وظيفياً بيد دولة إقليمية بعيدة، ذات نشاط مريب، تُحرّكه لا بوصفه تعبيراً عن إرادة محلية خالصة، بل كورقة عبث في خاصرة المملكة العربية السعودية، الجار الجنب لحضرموت، والعمق الجغرافي والأمني الذي لا يحتمل ألعاباً من هذا النوع.

وحين تتآكل السردية الوطنية، ويغيب المشروع الجامع، يبدأ التاريخ السياسي بالعودة من الأبواب الخلفية. فالمجلس الذي يوزّع صكوك الوطنية، يُختزل بدوره في ذاكرة خصومه بوصفه وريثاً هجينا لتناقضات قديمة: من «الرابطة العلوية»، الحزب العائلي الذي اتخذ “الهاشمية” أيديولوجيا سرية، إلى الحزب الاشتراكي اليمني، ذلك التنظيم الأحمر الراديكالي، صاحب السجل الدموي محلياً، والمشاغب إقليمياً في زمنه. خليطٌ أيديولوجي مرتبك، لا يجمعه انسجام فكري بقدر ما تجمعه براغماتية السلطة، واستدعاء الماضي حين يخدم الحاضر. المفارقة أن من يرفع شعار «مكافحة الإرهاب» و«حماية الجنوب» هو ذاته من يمارس إرهاب التصنيف، ويقوّض فكرة الجنوب بوصفه فضاءً سياسياً متنوعاً، لا ثكنةً أيديولوجية. فالقضية العادلة لا تحتاج إلى تخوين شامل، والمشروع الحقيقي لا يُبنى على شيطنة المجتمع، بل على احترام حقه في الاختلاف.

ناهيك عن أن من يشرعن حمل السلاح ضد شركائه في الوطن اليوم، لا يمكن الوثوق بأنه سيكبحه غداً احتراماً للجوار؛ فالعنف، متى ما اعتُمد أداةً سياسية داخلية، سقط عنه تلقائياً أي التزام أخلاقي أو اعتبار جغرافي. هذه معادلة تنطبق بجلاء على تجربة المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي قدّم البندقية على الشراكة، والقوة على التوافق.

أمّا الإمارات، بوصفها الدولة الممولة له، والداعم الأبرز لقوات الدعم السريع في السودان، فإن شهية النفوذ لا تتوقف عند خرائط البؤس والهشاشة؛ فمن يطمع اليوم في جغرافيا منهكة ومكسورة كاليمن والسودان، لن يجد غداً ما يردعه عن مدّ طموحه أبعد، كالطمع في المملكة العربية السعودية مثلاً أو سلطنة عمان، متى ما تهيأت الفرصة واختلّ ميزان الحسابات.

وهكذا، لا تتحوّل القضية الجنوبية إلى مشروع وطني جامع، بل إلى ساحة تُدار فيها اختبارات العنف والوكالة، ويُقايَض فيها المستقبل بحسابات آنية ضيقة. فالمآخذ التي يطرحها خصوم الانتقالي على المجلس ليست هوامش قابلة للتأجيل ولا ضجيجاً عابراً، بل علل جوهرية تضرب في صميم أي ادّعاء بالدولة. القفز عليها قبل إعلان الدولة الجنوبية ليس شجاعة سياسية، بل مقامرة متهوّرة، لأن ما يُؤجَّل اليوم سيتحوّل غداً إلى فاتورة سيادية باهظة، يُسدَّد ثمنها لا من جيوب الساسة، بل من مستقبل الأرض، وذاكرة التاريخ، واستقرار الجغرافيا. وكما يقول الحضارم في حكمهم التي لا تخطئ: «النطنطة ماودت الساير».

The post من رافعة للقضية إلى آلة لصناعة الأعداء: الانتقالي، يُمَثِّل الجنوب أم يُحاربه؟ appeared first on يمن مونيتور.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية