اللغة المهرية: كنز لغوي يقاوم الاندثار
تقارير وتحليلات
منذ 4 أيام
مشاركة

لم يكن الشاب محمد ناصر (26 عامًا)، الذي قدم من محافظة ريمة، يتوقع أن تشكّل رحلته إلى محافظة المهرة، نقطة تحوُّل في إدراكه للهوية واللغة المحلية، فهو حين وصل إلى سوق الغيضة المركزي، بحثاً عن فرصة للعمل، اصطدم بواقع لغوي مغاير، مما أثار لديه تساؤلات حول البيئة اليمنية التي اعتقد أنها مألوفة.

يقول محمد ناصر “لم تكن الصدمة في عدم القدرة على التواصل؛ بل على العكس تماماً، تحدثتُ مع الباعة والتجار، ووجدتُ منهم ترحيباً لا مثيل له، حيث كانوا يتحدثون العربية بطلاقة”.

لكن، وفي لحظة، التفت أحدهم إلى صديق له من أبناء المهرة، فإذا بهما ينتقلان فجأة وبشكل طبيعي تماماً إلى لغة أخرى. كانت لغة ذات نغمات صوتية مُغَايرة، بدت وكأنها شِفْرة قديمة تحمل بين طياتها الأسرار والتاريخ، يضيف ناصر.


مواضيع مقترحة


بين المهرية والعربية

يقدر عدد المتحدثين بها بنحو 100 ألف إلى 200 ألف شخص، يتواجد معظمهم في محافظة المهرة باليمن، وبعضهم الآخر في سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

على الرغم من أنها مُهدَّدة بالانقراض فإنها تظلُّ رمزاً للهوية الثقافية في هذه المنطقة النائية. لم يشعر محمد بالإقصاء على الإطلاق، بل شعر بـ الاحترام العميق. حيث أدرك أن اللغة العربية هي لغة الترحيب بالضيف، في حين أن لغتهم المهرية هي لغة الروح، لغة البيت والسوق والنكتة. لم يكن الأمر سرًا يخفونه، بل فخرًا يعلنونه.

هذا المشهد، الذي يتكرر في كل زاوية من زوايا المحافظة، دفع محمد إلى تساؤل أعمق: “لماذا لا نتعلم نحن كيمنيين عن هذا الفخر في مدارسنا؟”

تجدر الإشارة إلى أن التساؤل ليس غريباً؛ فالظاهرة التي لاحظها محمد في السوق يؤكدها الدكتور عبدالله بخاش، رئيس قسم الإعلام بجامعة المهرة.

يصف الدكتور بخاش المشهد من منظور أكاديمي غير ناطق بالمهرية قائلاً: “يتكلم المهريون اللغة العربية كباقي اليمنيين، ولا يوجد أي إشكال. لدي زملاء يحاضرون الطلاب في الجامعة باللغة العربية.”

وأوضح بخاش لـ “منصة ريف اليمن”: “لكن حين يتحدثون فيما بينهم، لا أفهم شيئاً. إنهم يتعاملون بها كلغة ثانية فيما بينهم. هذا التحول السلس بين اللغتين هو بالضبط ما يجسد حقيقة أن المهرية ليست لهجة، بل لغة قائمة بذاتها وهوية يُعتز بها”.

التوثيق والرقمنة

يتساءل سعد مسلم: “لماذا ظل هذا الكنز اللغوي حبيساً في الأوساط المحلية لقرون طويلة؟”و يقدم مسلم وهو رئيس وحدة التوثيق للغة المهرية في مركز اللغة المهرية، قصة كفاح لتوثيق وتحديث لغة كانت على حافة الاندثار. تأسس المركز في عام 2017 بمبادرة من مجموعة شباب، وكان مسلم أحد المؤسسين.

ويَروي مسلم: “عندما استشعرنا أن اللغة المهرية أصبحت على حافة الخطر بسبب تداخل اللغات الأخرى والعولمة، كان خطر الاندثار واقعاً والتأثير السلبي على اللغة المهرية واضحاً. لذا أسسنا هذا المركز”.

ويُضيف مسلم: “منذ انطلاقته في عام 2018، قام المركز بجهود جبارة لتوثيق اللغة. لقد جمعنا أرشيفاً صوتياً ومرئياً، وبعض هذه المواد تم جمعها من جامعات كبيرة في بريطانيا”.


ترتبط اللغة المهرية بتاريخ شعوب جنوب الجزيرة العربية منذ العصور القديمة قبل 2000 عام قبل الميلاد


ويُوضح مسلم أن الأرشيف الآن مرتبط بمؤسسات عالمية، ويسعى المركز إلى ربط الأرشيف المحلي بالأرشيف الخارجي. هذه الجهود التوثيقية لم تكن مُجرد جمع للمواد، بل كانت جزءاً من رؤية شاملة للحفاظ على اللغة وتطويرها منذ تأسيس المركز.

ويُتابع: “حتى اليوم، صار لدى المركز نحو 20 إصداراً، معظمها يتعلق باللغة المهرية والمهرة بشكل عام، بما في ذلك دراسات في الجانب الصرفي والمقارنات اللغوية.”

كيبورد الأبجدية

ويقول مسلم: “في عام 2019، تم تأسيس كيبورد اللغة المهرية، والذي سُمِّيَ بـ ‘الأبجدية المهرية’، لكنه لم ينتشر على نطاق واسع”.

ويُشير إلى أن الأحرف الأبجدية النهائية للغة المهرية تبلغ 34 صوتاً، منها ستة أصوات تتميز بها اللغة المهرية عن غيرها من اللغات.

ويُوضح مسلم أن هذه الأبجدية التي تم تطويرها في المركز تُمثل نقلة نوعية في تاريخ اللغة. “الكيبورد خاضع للتقييم الآن ونعمل على تحسينه. الهدف هو جعل الكتابة باللغة المهرية أسهل وأكثر انتشاراً.”

لكن الجهود لم تقف عند التوثيق والكتابة؛ فالمركز يعمل أيضاً على نشر الوعي باللغة من خلال فعاليات سنوية تُقام كل عام.

مركز بحوث اللغة المهرية في جامعة المهرة شرقي اليمن

في الثاني من أكتوبر من كل عام، يُقام احتفاء سنوي باللغة المهرية. يتفاعل معه أبناء المهرة، سواء كانوا في الداخل أو الخارج. لا يقتصر التفاعل على أهل المهرة فحسب، بل يشمل العرب بشكل عام؛ لأن اللغة المهرية ليست حِكراً على أبناء المهرة، بل هي لغة سامية، وبالتالي فإن كل عربي مَعنيّ بها كونها جزءاً من تاريخه المشترك.

ويُوضح مسلم أن قبل هذه الاحتفالات، تُقام حملات إلكترونية واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بغرض التعريف باللغة والحديث عنها. وقد ساعدت هذه الحملات في نشر الوعي باللغة المهرية وتشجيع الناس على استخدامها وفهم أهميتها.

وفي عام 2020، تم دمج مركز اللغة المهرية بجامعة المهرة. ويُضيف: “حالياً، لدينا كوادر علمية في المحافظة تعكف على إعداد منهج لتعليم اللغة المهرية على مستوى المحافظة.”

تُمثل هذه المناهج التعليمية نظرة المركز للمستقبل. ويقول مسلم: “لدينا فكرة على مستوى المحافظة لإدراج اللغة المهرية في منظومة التربية والتعليم داخل المحافظة، ونأمل أن تصل إلى المنهج اليمني بشكل عام.”

ويتطلع مسلم إلى أن تصبح اللغة المهرية جزءاً من التعليم الرسمي، لا مُجرد لغة محكية في الأسواق والمنازل. هذه الرؤية المستقبلية تتطابق مع ما لاحظه محمد في رحلته، فقد اكتشف أن الشباب المهري لم ينتظروا الدعم الرسمي؛ بل أخذوا لغة أجدادهم وحملوها إلى القرن الحادي والعشرين عبر هواتفهم الذكية.

ففي عام 2019، وبخطوة ثورية، أطلق مركز اللغة المهرية لوحة مفاتيح إلكترونية (كيبورد باللغة المهرية) على متجر “بلاي ستور”. فجأة، تحولت اللغة من إرث شفوي إلى واقع رقمي قابل للكتابة والمشاركة والتوثيق.


اللغة المهرية ليست مجرد لهجة محلية بل لغة سامية جنوبية تعود جذورها إلى آلاف السنين


اليوم، منصات مثل يوتيوب، وتيك توك، وإنستغرام تعج بالمحتوى المهري الذي يصنعه شباب لم يتجاوز الكثير منهم الخامسة والعشرين. مقاطع كوميدية، دروس لغوية، أغانٍ عصرية بكلمات مهرية؛ كلها تنتشر وتصل إلى آلاف المشاهدين، ليس فقط في المهرة، بل في أوساط المهريين في عُمان والسعودية والإمارات، وحتى في الشتات الأوروبي. لقد صنعوا نافذة مباشرة إلى عالمهم وأجبروا العالم على الاستماع.

المهرية لغة حية

عندما اقتربت ذكرى يوم اللغة المهرية في الثاني من أكتوبر، رأى محمد كيف أن الاحتفالات التقليدية اكتسبت بُعداً جديداً. ففي هذا اليوم، تظهر ألوان متعددة للغة ، من الشعر، والغناء، والقصص، والرقصات.

يصف الدكتور الصَنح القُميري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المهرة، هذا التحول بقوله: “لكن هذا العام كانت هذه الألوان تُبث مباشرة على فيسبوك، وتُشارك كمقاطع قصيرة على تيك توك، وتُحفظ كجزء من أرشيف رقمي ينمو يوماً بعد يوم.”

غادر محمد المهرة وهو يحمل فَهْماً جديداً تماماً؛ لم تكن قصته عن لغة تحتضر، بل عن لغة حية تتكيف وتصارع من أجل مكانتها. لقد أدرك أن الإجابة على سؤاله لم تكن في أروقة الحكومة، بل كانت في أيادي الشباب، وفي أبحاث الأكاديميين، وفي فخر كل مهري بلغة أسلافه.

يختم حديثه متسائلاً: متى ستنتقل اللغة المهرية من كونها كنزاً يُحتفى به في يوم واحد إلى جزء أصيل من المناهج الدراسية اليمنية ومن الهوية الوطنية التي يفخر بها كل يمني؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية