يمشي بدر في طرقات قريته وكأنما يتلمّس ما تبقى من ذاكرة بهتت كلما اقترب منها، وجوه تومض في خاطره ثم تتلاشى، وزوايا تحتفظ بحكايات طمرتها الحرب قبل أن يكتمل سردها، يحاول استعادة أصوات الحقول، نداءات العصر، وضحكات الصبا، غير أن الذاكرة تظل متقطعة، كقريته التي تجمع شتات أيامها بين النزوح والمنفى.
في روايات “حميد الرقيمي”، يتحول هذا التمزق إلى مادة سردية تكشف قضايا الريف اليمني بوصفه فضاء للذاكرة والوجع الاجتماعي، فهو لا يقدم شخصية بدر في “عمى الذاكرة”، الحائزة على جائزة كتارا للأعمال الروائية المنشورة لعام 2025، بوصفها حكاية فردية خالصة، بل بوصفها تمثيلًا سرديًا للجماعة، تتقاطع عبرها الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجمعية في بنية واحدة.
مواضيع مقترحة
- اللغة المهرية: كنز لغوي يقاوم الاندثار
- “العُثْرُب” طب الأجداد مازال يستخدم كدواء في الريف
- شباب الريف: أحلام متواضعة تصطدم بواقع صعب
يفتح هذا المشهد نافذة على الريف اليمني كما تعكسه الرواية الحديثة، حين يصبح حاضر القرية المثقل بالتحولات وماضيها المتواري مساحة لتجربة إنسانية شاملة، فقصة بدر ليست مجرد سرد لحياة شخصية، بل مرآة لحكايات يوثّقها الرقيمي، يظهر فيها الريف مكانا يتجاوز الجغرافيا ليحتضن الوجدان اليمني، محولا المعاناة الفردية إلى شهادة على واقع اجتماعي أوسع، تهيمن عليه ثيمات النزوح والمنفى والصمود.
يشير الناقد الدكتور “علي يوسف عاتي”، أستاذ الأدب والنقد بجامعة سيئون، في حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، إلى أن “الريف والرواية اليمنية يمثلان ذاكرة واحدة متشابكة، حيث يغدو المكان ليس خلفية للأحداث، بل عنصرًا فاعلًا في تشكيل الوعي والهوية”.
اللغة العربية وعاء للذاكرة الجمعية
تلعب اللغة العربية دورا محوريا في استعادة ذاكرة الريف وتجسيد علاقة الإنسان بالمكان، خصوصا في بيئة ظلت تعتمد طويلا على الشفاهة والحكاية بوصفهما وسيلتين لحفظ التاريخ اليومي البسيط.
في اليوم العالمي للغة العربية، الذي احتفى به العالم في الثامن عشر من ديسمبر، بوصفها لغةً حاملة لتجربة الإنسان ووعيه وتاريخه، تبرز أعمال الرقيمي مثالًا على هذا الدور، إذ لا تؤدي اللغة وظيفة التعبير السردي فحسب، بل تنهض بوصفها ذاكرة حيّة، تستحضر صورة القرية: حكايات الأجداد، إيقاعات المواسم، ونبض الحياة البسيطة، حتى لدى من لم يعش طويلًا في الريف.
تلعب اللغة العربية دورا محوريا في استعادة ذاكرة الريف وتجسيد علاقة الإنسان بالمكان في بيئة ظلت تعتمد على الشفاهة والحكاية
يقول الرقيمي: “اللغة العربية في الريف اليمني تجسيد للذاكرة الجمعية، تحمل تاريخ الناس وعلاقتهم بالمكان، حتى من لم يعش في الريف طويلًا، يشعر بأنها تمثله لأنها تمثل الجذر الثقافي والإنساني المشترك”.
يوضح خلال حديثه لـ”ريف اليمن”، أن اللغة في تجربته الكتابية لا تنبع من مكان محدد بقدر ما تصدر عن ذاكرة إنسانية واسعة، إذ يقول: “اللغة التي أكتبها تنبع من ذاكرة إنسانية ممتدة، لا من مكان بعينه فقط”.
ويضيف: “أكتب بوعي كامل، غير أنَّ ما يتسرّب إلى نصوصي يأتي من مخزون سمعي وشعوري وثقافي عشته وسمعته عبر الزمن؛ من الحكايات والأصوات والتجارب التي ساهمت في تشكيل مخيلتي ووعيي”.
هكذا يتبدى الريف في مرايا الكتابة كفضاء يعاد تشكيله مع كل نص، ذاكرة تتداخل فيها الخسارات مع الرغبة في الاستعادة، وتجسّدها شخصيات مثل بدر، التي تحمل في صمتها تاريخ القرية ووجعها.
ويضيف الرقيمي: “أثر الريف تسلل إلى وعيي مبكرا عبر الذاكرة الجمعية وحكايات الأجداد، لم يكن الريف في تجربتي سيرة حياة مكتملة، بل حضر رمزا للأصل والبدايات والإنسان القريب من الأرض، لذلك ظل حاضرا في بعض أعمالي مساحة إنسانية تغذي الخيال حتى اليوم”.
الريف بين النص والواقع
تكشف روايات الرقيمي عن الريف اليمني كفضاء تتقاطع فيه معاناة الناس وأسئلة الحياة اليومية: الفقر، غياب الخدمات الأساسية، الهجرة القسرية، وانهيار البنى الاجتماعية التي شكلت عماد القرية لعقود، فالريف الذي كان قائما على التكافل والعلاقات المتينة يجد نفسه اليوم أمام واقع تتآكل فيه الروابط بفعل الحرب والنزوح وتمدّد المدن إلى تخوم القرى.
الرقيمي: “أثر الريف تسلل إلى وعيي مبكرا عبر الذاكرة الجمعية وحكايات الأجداد، وحضر رمزا للأصل والبدايات والإنسان القريب من الأرض”.
وتنعكس هذه التحولات في مصائر الشخصيات التي تتحرك بين الحاجة والخسارة، ومحاولات الحفاظ على ما تبقى من كرامة في مواجهة واقع متغير بلا هوادة. ويبرز البعد النفسي للشخصيات بوصفه أحد محركات السرد؛ حيث يتكرر الشعور بالغربة والحنين إلى الماضي؛ ما يجعل من الرواية شهادة حيّة على معاناة الإنسان اليمني.
يقول الأديب عابد القيسي: “حضور الريف في الرواية اليمنية لا يُختزل في كونه خلفية مكانية، بل تعبيراً عن تجربة الإنسان اليومية، ومصدرا أساسيا لتشكُّل الوعي السردي”.
ويؤكد عاتي: “الريف ليس مجرد مكان، بل جوهر الهوية ومرآة السلام الداخلي، وفضاء الانتماء الذي يقاوم التشظي. في الريف يعيش الإنسان كما خُلق ليعيش؛ بسيطًا، صبورًا، مشدودًا إلى الوطن بحبٍّ لا ينقطع”.
التعليم والمرأة في الريف
ضمن هذا السياق الاجتماعي المتشظي، يطرح الرقيمي قضايا المرأة والتعليم في الريف عبر سرد غير مباشر، بوصفهما نتيجة طبيعية لاختلال البنية الريفية لا ملفًا منفصلًا عنها؛ إذ يبدو التعليم حلمًا مؤجّلًا للمرأة الريفية، تصطدم فرصه بالفقر والعادات الاجتماعية التي ترى تعليم الأنثى ترفًا لا أولوية له.
ويقول الرقيمي: “حين بدأت أكتب عن الحرب والمنفى، أدركت أن الريف كان من أكثر الأمكنة دفعًا للثمن، حتى وإن ظل بعيدا عن الضوء. جذبني الريف بوصفه مساحةً للصمت وشهادة غير منطوقة، وحملته في بعض النصوص كشخصية رمزية تمثّل الإنسان المنسي أكثر مما تمثّل الجغرافيا”.
تقدم روايات الرقيمي الريف كفضاء متعدد الأبعاد؛ فهي لا تكتفي بوصف المكان، بل تجعل منه مرآة للهوية اليمنية وصوتًا للذاكرة الجمعية
يشير القيسي إلى أن معالجة الرقيمي لهذه القضايا تتميز بوعي فني لافت، موضحًا: “غياب التعليم، إلى جانب الفقر والهجرة، ليست تفاصيل هامشية، بل عوامل مركزية تعيد إنتاج التهميش، وتؤثّر بعمق في استمرارية القرية، فيما تظلّ المرأة أولى ضحايا هذا الغياب”.
قضايا إضافية
إضافة إلى ما سبق، يعالج الرقيمي قضايا الحرب والمنفى والاقتلاع، والهوية الممزقة، والصمت بوصفه لغة للتعبير عن الألم، كما يناقش التهميش الاجتماعي، والانفصال عن المدينة، والتحولات الزمنية المستمرة، فالريف عنده ليس مجرد مكان جغرافي، بل مرآة لتجربة الإنسان اليمني في مواجهة فقدان المكان، وتمزق العلاقات، والصمود النفسي والوجداني. هذا البعد يعمّق فهم القارئ للريف بوصفه فضاء متعدد الطبقات يجمع بين الواقع الاجتماعي، والتجربة النفسية، والذاكرة التاريخية.
تقدم روايات حميد الرقيمي الريف اليمني كفضاء متعدد الأبعاد تاريخيًا، اجتماعيًا، وجدانيًا، ولغويًا؛ فهي لا تكتفي بوصف المكان، بل تجعل منه مرآة للهوية اليمنية، وصوتًا للذاكرة الجمعية، مع تسليط الضوء على الصراعات الواقعية التي تؤثّر في الإنسان والقرية.
وبينما توثق الرواية التحولات الاجتماعية والسياسية، تظل شخصياتها – مثل بدر – شاهدة على الألم والحنين والصمود؛ ما يجعل من الريف محورًا حيًا للفكر والخيال معًا، ويؤكد الدور الإنساني العميق لأدب الرقيمي في مقاربة قضايا الإنسان اليمني.
*صورة الغلاف :محمد سهيل