العسل الجبلي: رحلة الموت في جبال الضالع الوعرة
تقارير وتحليلات
منذ أسبوع
مشاركة

تُعيد الحوادث المأساوية المتكررة في الأرياف اليمنية تسليط الضوء على قسوة مهنة البحث عن العسل في الجبال الوعرة، لا سيما في ظل الفقر الذي يدفع الشباب إلى خوض مغامرات مميتة ومحفوفة بالمخاطر.

قبل أسابيع قليلة، هزَّت حادثة مأساوية سكان مديرية قعطبة بمحافظة الضالع، راح ضحيتها الشاب فائز الذي خرج في رحلته المعتادة مع رفاقه بحثًا عن جحور النحل، كما اعتاد أن يفعل، لكن الجبال الوعرة لم تمنحه فرصة للنجاة.

وفي لحظة خاطفة، وبينما كان يواجه هجوم النحل، انزلقت قدمه من منحدر صخري شاهق. فاختلط صراخه بصدى الهاوية، وتحول السعي خلف الرزق إلى فاجعة أَلَمَّت بمنطقته بأكملها.


مواضيع مقترحة


رحلة الموت في الجبال

يروي محمد خالد، رفيق فائز، تفاصيل الفاجعة لـ “منصة ريف اليمن”، قائلاً: إنهم اتفقوا على اللقاء قرب المكان المحدد مع صديقهم أحمد سليم. وعند وصولهم، كان فائز متحمسًا بصورة غير مسبوقة، واثقًا بمهارته في التسلق رغم افتقاره للخبرة في التعامل مع النحل.

ويؤكد محمد أن الجميع حاولوا منعه من الصعود عندما وصلوا، لكنه أصر على التسلق إلى مدخل الخلية، رغم توسلاتهم له بالعودة إلى الأسفل. وهناك، ارتكب خطأً قاتلاً حين أشعل سيجارة بباب جحر النحل الجبلي، المعروف بشراسته وعدوانيته.ولم تمر ثوانٍ حتى انقض عليه سرب النحل ثم سقط إلى أسفل الجبل.

ركض محمد ورفاقه للنزول للبحث عنه، لكنهم وصلوا إليه وقد فارق الحياة. حملوه على أكتافهم نحو أسفل المنحدر الجبلي وصولاً إلى أقرب مكان تستطيع السيارة الوصول إليه. جرى نقله إلى منطقة عُزَّاب، حيث أكد لهم الأطباء أن الشاب توفي بالفعل بعد تهشُّم جسده.

يرى الناشط علوي سلمان أن اندفاع الشباب نحو البحث عن النحل يعود بالدرجة الأولى إلى الظروف المعيشية القاسية التي تمر بها البلاد والذي بدورها خلقت فراغًا كبيرًا في حياة كثير من الشباب، فدفعتهم إلى مطاردة أي فرصة تبدو وكأنها باب رزق، سواء عبر البحث عن الكنوز أو تتبّع خلايا النحل واصطياد العسل الجبلي.


 


وأوضح في حديث لـ “منصة ريف اليمن” أن هذه المغامرات ليست بلا ثمن، فمعظم من يندفعون نحوها يفعلون ذلك بنشوة طيش، دون تقدير لما قد يترتب عليها من كارثة أو أذى قد يودي بحياتهم إلى الموت.

لا يقتصر الأمر على الدافع المادي فقط؛ إذ يهوى الكثيرون مهنة البحث عن العسل هواية منذ الطفولة، متأثرين بالآخرين.

هواية مهددة

يحكي الشاب فهمي رضوان، أحد سكان مديرية جحاف في محافظة الضالع، أنه بدأ ملاحقة النحل كهواية قبل عشرة أعوام. وعلى الرغم من شغفه، كاد أن يدفع الثمن غاليًا في بداياته.

يروي فهمي تفاصيل تلك التجربة قائلاً لـ “منصة ريف اليمن”: “في إحدى محاولاتي الأولى، تسلَّقت جبلًا في منطقتنا للوصول إلى جحر نحل جبلي، معتمدًا فقط على حماسي واندفاعي. لم أدرك حينها أن الحبل الذي يشدّه رفاقي بدأ يتمزق ببطء. تنبَّهوا إلى الخطر في اللحظات الأخيرة، فسارعوا إلى إنزالي قبل أن ينقطع الحبل تمامًا وأهوي من ارتفاع شاهق. وعندما اقتربت من الأرض، انقطع الحبل أخيرًا، فسقطت سقوطًا خفيفًا، ونجوت من موت محقق كان ينتظرني لو حدث الانقطاع وأنا ما زلت معلَّقًا في أعلى الجرف.”

يُقر رضوان بأنه يغامر دون أدوات سلامة، معتمدًا على مهاراته البدوية وشغفه في تربية النحل. ويلفت إلى أنه في الغالب لا يبحث عن النحل لجني العسل فحسب، بل لاستخراجه وتربيته في منزله.


 


من جانبه يُؤكد النحَّال الجبلي عبيد العمري (37 عامًا)، وهو نحَّال شغوف قادم من أعماق الضالع، بأن التعامل مع النحل ليس مجرد مهنة، بل هو امتداد لخبرةٍ ورثها عن آبائه منذ أكثر من عشرين عامًا.

يمارس العمري العمل بطرق بدائية، تعتمد على الفطرة والتقليد والحواس التي تشكَّلت داخل الجبال وبين وديان الأزارق وجحاف. إذ يقول إن رحلة جمع العسل تبدأ دائمًا من مراقبة حركة النحل وتتبع مساراته بين الصخور والأشجار.

ورغم ما تحمله الجبال من مخاطر، يؤكد العمري أن العسل الجبلي ما يزال مصدر رزق أساسي، فهو “عسل مرعى” خفيف اللزوجة، حلو الطعم، وله قيمة عالية في الأسواق. ومع ذلك، يعبّر عن حزنه لأن أعداد النحل بدأت تقل تدريجيًا. ويربط ذلك بتراجع الأشجار المعمرة بسبب التحطيب، والجفاف، وتغيرات الطقس، ما جعل بيئة النحل تنحسر عامًا بعد عام.

العسل الجبلي والمناخ

مع تزايد حوادث الوفيات في صفوف الشباب خلال رحلة البحث عن النحل، يقدِّم الدكتور محمد الشرحي، أستاذ علوم النحل بجامعة ذمار، قراءة مختلفة تُبعد النقاش عن لحظة الحادثة وتُعيده إلى جذور المشكلة: فالبيئة نفسها تغيّرت، والنحل الجبلي تغيَّر معها.

يصف الشرحي النحل الجبلي بأنه “نتاج منظومة طبيعية دقيقة” تعتمد على الأشجار المعمّرة وتنوع الرحيق في المرتفعات. ويشرح أن كثيرًا من المناطق التي اشتهرت تاريخيًا بالعسل الجبلي بدأت تشهد تراجعًا واضحًا في أعداد النحل، نتيجة التحطيب، وتآكل الغطاء النباتي، وامتداد سنوات الجفاف.


 


هذه التحولات – كما يقول – تمسّ دورة حياة النحل وتضعف طوائفه، وتقلّل من قدرته على البقاء والتكاثر، الأمر الذي ينعكس مباشرة على جودة العسل وكميته.

ويضيف الشرحي أن خصائص النحل الجبلي ليست عادية، فهو أكثر دفاعية وحساسية لأي إزعاج، ويحتاج إلى معرفة علمية للتعامل معه، وليس مجرد ممارسة موروثة. ويشير إلى أن بعض عمليات جني العسل التقليدية، حتى حين تمرّ بسلام، تخلّف أثرًا بيئيًا خطيرًا يتمثل في تدمير الجحور الطبيعية للنحل، ما يسرّع اختفاءه من الجبال.

عندما يتحدث عن الحلول، يضع الشرحي خريطة طريق واضحة: التحوّل نحو تربية النحل الحديثة كخيار اقتصادي آمن، بشرط أن يترافق مع تدريب حقيقي على إدارة الطوائف، واختيار مواقع مناسبة غنية بالرحيق وبعيدة عن الرش بالمبيدات، وتوفير الحد الأدنى من الأدوات الحديثة التي تسمح بإنتاج جيد دون المساس بالطبيعة الجبلية.

ويؤكد أن صَوْن النحل الجبلي يتطلب سياسات زراعية واضحة ودعمًا من الجمعيات البيئية، معتبرًا أن حماية الغطاء النباتي وتشجيع التربية الحديثة هما “الركيزة الأولى لإنقاذ الإرث الطبيعي الذي تتعلق به حياة آلاف الأسر في الريف.”

بحسب أرقام الأمم المتحدة، “فإن حوالي 100 ألف أسرة تعمل في مجال تربية النحل، وتعتمد عليها بوصفها المصدر الوحيد للدخل”. ويعود تاريخ تربية النحل في اليمن إلى بداية الألفية الأولى قبل الميلاد على الأقل، وكانت تربية النحل تشكل جزءًا لا غنى عنه من الحياة الاقتصادية في اليمن.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية