مقالع الطامورة... مأساة بيئية تخنق أهالي ريف حلب الشمالي
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة
في الطريق إلى بلدة الطامورة شمال حلب بسورية، يتخيّل الزائر أنه يسير في قلب غيمة رمادية لا تنقشع من الغبار الذي يملأ السماء، ويتنشقون هواءً مشبّعاً بذرات دقيقة من الحصى. إنها تأثيرات مقالع الطامورة حيث يتناثر الحصى ويلتصق بالوجوه والثياب، ويستقر في صدور الأطفال وكبار السن قبل أن يصل إلى المزروعات التي ذبلت أوراقها بسبب التلوث. ليس ذلك عاصفة طبيعية بل آثار مباشرة لعشرات المقالع الحجرية المنتشرة في البلدة، والتي حوّلتها إلى ما يشبه ساحة حرب بيئية وصحية. تعود جذور المشكلة إلى مرحلة ما بعد الحرب السورية، حين فتح باب الاستثمار في المقالع لتأمين مواد إعادة الإعمار من دون دراسة الأثر البيئي، وسط غياب الرقابة الرسمية، إذ انتشرت هذه المقالع كالفطر في الأراضي الزراعية والجبال القريبة من المنازل، وتحوّلت بالتالي من مشروع اقتصادي إلى مصدر دائم للتلوث والمعاناة. قالت مرام علوش، وهي أم لثلاثة أطفال، لـ"العربي الجديد": "تحوّلت حياتنا في بلدة الطامورة إلى معاناة يومية بسبب الغبار المتصاعد من المقالع القريبة، أصيب أبنائي بسعال طوال الليل بسبب الغبار، ولم نعد نستطيع النوم بهدوء. استيقظ كل صباح على صوت سعالهم، وكأنّهم يعانون من ضيق تنفس"، تابعت: "ظننت في البداية أن الأمر مجرد زكام موسمي أو حساسية عابرة، لكن الطبيب أكد أن ما يصيبهم هو تهيّج في الشعب الهوائية نتيجة الغبار الكثيف المنبعث من المقالع، ونصحني بإبعادهم عن المنطقة، لكن إلى أين نذهب، هذه أرضنا وبيتنا، وفي الوقت نفسه لم يعد الهواء يصلح للتنفس، أطفالنا يمرضون ونحن عاجزون. نريد فقط أن نعيش في بيئة نظيفة ليس أكثر". وتتحدث أيضاً، وهي تمسح الغبارعن نافذة بيتها: "أغلق النوافذ بإحكام، وأضع أقمشة مبللة على الأبواب، ورغم ذلك يدخل الغبار إلى البيت، يتراكم على الأثاث على الملابس وحتى في الطعام إذ نأكل ونحن نشعر بطعمه بين أسناننا. لم يعد الأمر مجرد إزعاج عابر، بل خطر دائم يهدّد الحياة". ولا يختلف الحال كثيراً عند كبار السن في البلدة، ويروي الحاج يوسف البشير، البالغ من العمر سبعين عاماً، لـ"العربي الجديد"، وهو يجلس أمام منزله القريب من أحد المقالع، محاولاً عبثاً أن يتنفس بعمق في هواء مليء بالغبار: "في السابق كانت الحياة مختلفة. كانت أراضي الطامورة مكسوة بالقمح والزيتون، وتفوح منها رائحة التراب المبتل بعد المطر، أما اليوم فقد تحوّل كل شيء إلى رماد وحجارة". ووصف البشير الذي أنهك السعال صوته وصدره، كيف غيّر الغبار حياته بالكامل منذ أن أنشئت المقالع التي جعلت التنفس صعباً، خصوصاً في ساعات الصباح، وأشار إلى أن معظم جيرانه من كبار السن يعانون المشكلة نفسها، وأن بعضهم اضطروا إلى الانتقال مؤقتاً إلى قرى أبعد علّهم يجدون هواءً أنقى خاصة مرضى الربو والحساسية الصدرية. بدوره، قال صيدلاني القرية أحمد بركات لـ"العربي الجديد": "زاد عدد حالات التهاب القصبات والربو لدى الأطفال وكبار السن لأنّ أجهزتهم التنفسية أضعف، ونرى حالات اليوم كانت نادرة قبل وجود المقالع التي تعمل معظمها من دون تراخيص بيئية وبلا رقابة، وتحصل عمليات تفجير عشوائي من دون اتخاذ أي إجراءات وقائية، مثل رش المياه أو إقامة حواجز عازلة". على الصعيد البيئي، تدمّر المقالع مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي كانت تشكل مصدر رزق رئيسي لأهالي الطامورة. وأوضح المهندس الزراعي فادي الأحمد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "الاهتزازات الناتجة عن تفجير الصخور أدت إلى تشققات في طبقات التربة وتلوث المياه الجوفية، وتراجعت بالتالي نسبة الخصوبة في الأراضي القريبة من المقالع بنسبة تتجاوز 60% خلال السنوات الأخيرة، ما أثرّ مباشرة على إنتاج القمح والخضار". وأكد الأحمد أن "الأضرار لم تقتصر على المزروعات، بل امتدت إلى الغطاء النباتي والحياة البرية، فاختفت أنواع من الطيور الصغيرة التي كانت تعيش في محيط البلدة، كما تراجعت أعداد النحل بسبب الغبار الكثيف الذي يغطي الأزهار، ويمنعها من التفتح في شكل طبيعي. من هنا تعتبر البيئة الزراعية في الطامورة في مرحلة خطر حقيقي، وإذا استمر الوضع على هذا النحو ستتحوّل المنطقة خلال سنوات قليلة إلى أرض قاحلة". في المقابل، يدافع أصحاب المقالع عن نشاطهم باعتباره مصدراً ضرورياً لتأمين مواد البناء وسط الدمار الذي خلفه النظام السابق وتشغيل اليد العاملة المحلية، وقال أحد أصحاب المقالع الذي رفض الكشف عن اسمه لـ"العربي الجديد": "نحاول قدر الإمكان الحدّ من تطاير الغبار عبر رش المياه دورياً، لكنه قلة الموارد وصعوبة تأمين الوقود والمياه على نحوٍ دائم تجعل الالتزام الكامل بالإجراءات البيئية أمراً شبه مستحيل". وبين الضّرر وتبريرات أصحاب المقالع وغياب الرقابة، يقف أهالي الطامورة بين خيارين أحلاهما مر، إما قبول واقع التلوث للحفاظ على بعض فرص العمل، أو المطالبة بإغلاق المقالع وإنقاذ ما تبقى من بيئتهم وصحتهم. وبين الخيارين يظلّ الغبار سيد المشهد، يغطي السماء والأرض وقلوب الناس الذين ينتظرون يوم عودة هواء بلدتهم نقياً كما كان.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية