إطفاء الحرائق وصناعة سلام
عربي
منذ 21 ساعة
مشاركة
نهاية أزمة الأسرى والتجمّع الرئاسي في شرم الشيخ يؤكّدان انقشاع غبار حرب غزّة. تلك صفحة شرق أوسطية جديدة، كما قال دونالد ترامب، لكنّها ليست مرحلة جديدة. الحرب ألقت أثقالها، لكن السلام لا يزال حلماً غير قريب. غزّة تُنقل من احتلال إسرائيلي إلى استعمار دولي. حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تنهض مخضّبة بالدم والخيبات تحت ضغوط مركّبة، مكثّفة، داخلية وخارجية. رغم خروجها من تحت الأنقاض بتفويضٍ مؤقّت، تظل هي الضحية، والشاهد الحي على نهاية حقبة الإسلام السياسي. أمام "حماس" فرض الجهاد الأكبر في درب الوحدة الفلسطينية، فالمسألة الفلسطينية تتطلّب أكثر من أيّ وقت مشروعاً وطنياً حداثياً، وقيادةً شابّةً أنفذ رؤى. يفيق نتنياهو على كابوس، مُطارَداً بفساده القديم ويمينه المتطرّف. وحده ترامب البطل، لأن العرض مكرّس منذ البدء بنسق عرض الرجل الأوحد (ون مان شو) بتكنيك هوليوودي. انتهت حرب غزّة، لكنّها ليست آخر الحروب في المنطقة كما تمنّى عبد الفتاح السيسي. وثيقة ترامب ذات الـ21 نقطة لم تذهب أبعد من سياسات اليمين الإسرائيلي، إذ استهدفت تفكيك هياكل "حماس"، وتصفية كوادرها وتهجير قياداتها، وصولاً إلى تدمير الحركة. لكن الوثيقة تلتزم الصمت عمداً إزاء جوهرة القضية الفلسطينية المركزية المجسّدة في الدولة. الوثيقة تبثّ الذعر من فوبيا "الفوضى" و"الإرهاب"، لكنّها تغضّ الطرف عن أشكال عنف الدولة الإسرائيلية الممنهج تجاه الفلسطينيين، بدءاً من "تكسير العظام" مروراً بتدمير البيوت، وانتهاءً بعمليات القتل وحملات الاقتلاع والإبادة العسكرية والمدنية، المحدودة والمفتوحة. ما لم يتوافق الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة في هذه المحنة على بناء الوحدة الوطنية ديمقراطياً، تبقى الدولة حلماً عصيّا على المنال، كما يظلّ اللحم الفلسطيني عرضة للشواء، ويظلّ الدم عرضة للنزف، والشجر والحجر والبشر للاقتلاع. الرهان على ترامب في تثبيت سلام دائم لا يعزّزه المنطق السياسي تغرق إسرائيل في الوهم إن ظنّت أن وثيقة ترامب جفّفت حلم الدولة المستقلة. لذلك يبقى الجدل الإسرائيلي المحموم يشكّل الوقود المحرّك للساسة والسياسة داخل إسرائيل. ثمّة قواسم مشتركة بين القيادات الحزبية المتنافسة على السلطة تجاه المسألة الفلسطينية، لعلّ أبرزها رفض خيار سلامٍ يفضي إلى الاعتراف بدولة فلسطينية. كلّهم يتفقون على تبنّي سياسة الردع الهجومي (وإن تباينت شراسته)، وعلى بناء أدواته ضدّ العالم العربي بأسره. لو أن أيَّ زيارة رئاسية تاريخية تكفي لاختراق حواجز الخوف والتربّص والعداء، لكانت زيارة السادات أنجزت تلك الغايات بثقل توقيتها وجرأتها السياسية. من زاوية مغايرة، فإن نزع سلاح "حماس" لا يعني تجريد الفلسطينيين من القدرة على ابتكار أدوات النضال. فالانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) مثّلت حرب تحرير حقيقية بأسلحة مغايرة هزّت الاحتلال. تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مشحون بعنف لا يهدأ، في خطّ بياني يبلغ ذروته في نحو خمس حروب ضروس، وأكثر من عشرين صداماً عنيفاً، وكثير من الاشتباكات المسلّحة. عديدة أيضاً وثائق السلام، لكنّها لم تنجز نصوصها أو تنجح في كبح أشكال التوتر وإخماد بؤر العنف. دعك من فتح أفق لمرحلةٍ شرق أوسطية جديدة. مردّ ذلك تفشّي ثقافة العنف في المنطقة بأسرها. إذ لا تبرأ العلاقات العربية البينية من انفجارات وصدامات مسلّحة. كما فرّخت سياسات النخب الحاكمة جيوبَ العنف والإرهاب داخل كثير من الأقطار. لكنّ ثقافة الحرب هي الغالبة على المجتمع الإسرائيلي، في داخله، وبينه وبين محيطه العربي. باستثناء رابين لا تحتفظ الذاكرة العربية بسياسي إسرائيلي حاول اختراق حاجز المحيط الملغوم بالعنف. جميع القيادات على خشبة المسرح السياسي الإسرائيلي حالياً مشبعة بالثقافة ذاتها، وملتبّسة بالضعف والارتباك. سقف طموحها إزاحة نتنياهو من المسرح. بعد أن كاد يصبح ملكاً. من الصعب استشراف ساحلٍ شرقَ أوسطيٍّ جديدٍ على بوصلة اتفاق غزّة أو أضواء شرم الشيخ الرهان على ترامب في تثبيت سلام دائم لا يعزّزه المنطق السياسي. فحرب غزّة نفسها تكشف تأرجح مواقف الرئيس الأميركي من التحريض والمناداة بالتهجير إلى التفويض والاعتراف الضمني بهيبة "حماس" وسط الأطلال. ترامب المندفع بطموحات ذاتية آنية (جائزة نوبل للسلام) نجح في دور الإطفائي عند خطوط نار مشتعلة في مناطق متباينة. كلّها ربّما يغلب عليها طابع النزاع الحدودي. لكن عقلية رجل الصفقات لا تذهب إلى دور صانع السلام. تلك مهمّة تتطلب فكراً أبعد، وأناةً أطول، وبحثاً أعمق. وليست تلك ضمن مواصفات صفقات البورصات السياسية وإطفائي البؤر الحدودية. كما أن نتنياهو لم يوقّع اتفاق سلام مع رئيس عربي أو زعيم فلسطيني. حتى مناحيم بيغن وقّع اتفاق كامب ديفيد بفضل حسابات ساداتية ذاتية، وضغوط كارترية حصيفة. مع ذلك غلب الطبع الإرهابي التلمودي أحد قتلة "دير ياسين"، فدبّر قصف المفاعل العراقي، ثمّ احتلال الجنوب اللبناني على عتبة ثمانينيّات القرن الفائت. سريعاً طويت أنباء مشاركة نتنياهو في قمة شرم الشيخ. الجميع أدرك تداعياتها غير الإيجابية على أهل القمّة وزبانية الصراع السياسي الإسرائيلي. مع ذلك، بدأ ترامب في يومه الطويل ذاك كمن نفض يديه من تبعات اتفاق غزّة في شرم الشيخ. فالرئيس الأميركي عمد إلى إشراك أطراف بعينها في تحمّل تداعيات لا مهرب منها. إنه توريط أكثر منه تشريفاً أو تكليفاً. وحده ترامب انفرد بعواصف التصفيق. وحده تصدّر المشهد السياسي الدولي بلا منافس على البطولة. ربّما فتح "طوفان الأقصى" المنطقة على بحر الفوضى، لكن من الصعب استشراف ساحلٍ شرقَ أوسطيٍّ جديدٍ على بوصلة اتفاق غزّة أو أضواء شرم الشيخ.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية