
عربي
في ظلّ التحوّلات الاقتصادية العميقة التي يعيشها لبنان والمنطقة، ومع تفاقم آثار الفساد والانهيار المالي، برزت الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الحوكمة ومكافحة الجرائم المالية ركيزة أساسية لبناء الثقة واستعادة استقرار النظام المصرفي. ومن هذا المنطلق، شكّلت "قمة خليفة للاستشارات لمكافحة الجرائم المالية لعام 2025" التي اختُتمت في بيروت حدثًا اقتصاديًا محوريًا جمع خبراء ومسؤولين من مختلف القطاعات المالية والقانونية والرقابية، لمناقشة سبل مواجهة التحديات التي تهزّ الاقتصادات الإقليمية، وفي مقدمتها الفساد المؤسسي، وضعف الحوكمة، والجرائم المالية العابرة للحدود.
القمة التي انعقدت تحت شعار "بناء أنظمة مالية قادرة على الصمود في وجه الاضطرابات العالمية"، جاءت في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتقاطع الأزمات اللبنانية الداخلية مع مشهد جيوسياسي متقلب يضع المصارف والمؤسسات المالية أمام امتحان الثقة والشفافية. وبينما أكّد الخبراء أنّ الحلول لا يمكن أن تكون آنية أو شكلية، شدّدوا على أنّ الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بمكامن الخلل، وتحويل الشفافية من شعارٍ إلى ممارسةٍ يومية تضمن المحاسبة وتحدّ من الإفلات من العقاب.
الفساد أصل الأزمة والإصلاح مسؤولية جماعية
في السياق، قالت الباحثة والخبيرة الاقتصادية جوسلين عيد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ الفساد في لبنان هو ما أوصل البلاد إلى هذه الحال، وهناك غضب شعبي كبير من قبل المواطنين. وأشارت إلى أنّ "تسليط الضوء على هذه المواضيع، وإقامة المؤتمرات، والاستعانة بالخبراء، يعرّف المواطن إلى أنّ الأساس كان في منظومة فاسدة". وأضافت: "اليوم من المفروض أن نخرج بحلول، لكنها ليست عصاً سحرية، بل يجب على الجميع العمل عليها".
وأكدت عيد أنّ هناك مسؤولية على الأفراد أيضاً، لأنّ "العمل لا يمكن أن يكون من جهة واحدة فقط. وإذا عدنا إلى أساس المشكلة، نجد أنّ المسؤولين المتهمين بالفساد هم في الأصل مؤتمنون على المال العام، لكن الأمور كانت تأتي على حساب جيوب الفاسدين". وأضافت أنّه "إذا أردنا تقسيم المشاكل بهدف إيجاد الحلول، نرى أنّ هؤلاء كانوا يملكون الصلاحية لتحريك النظام على هواهم، ما أدى إلى توظيف من يعملون معهم، بالإضافة إلى تعطيل دور المراقبين بسبب الفساد المستشري". وأشارت إلى أنّ "توقف المساعدات فاقم انهيار النظام المالي".
وقالت عيد إنّ "الشعب اللبناني يملك قدرات كبيرة للتغلب على الأزمات، ولكن الأهم هو عدم القبول بفكرة أنّ الجميع فاسدون. فهناك أفراد يعملون لمصلحة لبنان ولو بقدرات محدودة، لكن الأهم هو أن نرفع قيمة النزاهة في مقابل الفساد". وأضافت: "علينا أن نتعلم من التجارب الخارجية، وأن نستعين بالخبرات والقدرات ونُجسّدها في لبنان".
أما عن العلاقة بين تدهور النظام المصرفي اللبناني وزيادة الجرائم المالية، فأكدت عيد أنّ "الفساد أصبح هو الصحيح في لبنان بسبب تفرد السلطة السياسية بالقرارات". وأوضحت أنّ القطاع المصرفي اليوم "يجب أن يعيد بناء ثقته، وأن لا يكون مجرد مشاهد، بل عليه أن يعمل بجدية، لا أن يتعامل مع الإصلاحات كأنها مجرد "Check box""، وتابعت: "لبنان اليوم لا يملك الصلاحية لعدم القيام بالإصلاحات، فالعلاقات الخارجية تجبره على تنفيذها، والاتجاه نحو الرقمنة واستخدام الـE-system ضمن ضوابط محددة بهدف تعزيز الشفافية". وأكدت ضرورة أن "يكون الشعب شريكاً في هذه العملية لمعرفة كافة التفاصيل المتعلقة بالنظام المالي".
وأضافت أنّ "إعادة الإعمار في لبنان مشروطة، لذلك يجب البدء بالتنفيذ، لأنّ العالم يحتاج إلى الأفعال لا النيات. وأوضحت أنّ على الدولة "الإبلاغ عن مشاكل الفساد والعمل على حلها، إذ إنّ الجمعيات العالمية والدول المانحة على استعداد للمساعدة ضمن حدود مكافحة الفساد، ولكن ليس بالكلام، بل بالتطبيق"، وشدّدت على ضرورة "الصدق والشفافية". واعتبرت عيد أنّ "المصارف لديها معايير تطبيق يجب الالتزام بها، ومن المفروض إظهار حسن النية في التنفيذ، لأنّ البلد لا يمكن أن يقوم دون مصارف. فالعالم يحتاج إلى المصارف للنمو الاقتصادي، وبالتالي لا يمكن القبول بالعزلة الاقتصادية". وأشارت إلى أنّ "تعديل القوانين الحالية يمكن اعتباره بداية، لكن الأهم هو إظهار الأرقام والحالات بشفافية"، وختمت لتأكيد "وجود عمل مستمر للخروج من الأزمة، ليس بشكل نهائي، ولكن بشكل فعلي".
بدوره، صرّح عضو مجلس الإدارة التنفيذي في هيئة الأسواق المالية في لبنان سامي صليبا، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، بأنّ على الدولة اللبنانية "بذل كل الجهود لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي، وإلا فإنّ كل الحلول المطروحة أو التي ستُطرح، أو حتى التي قد تُقرّ، لن تنفع ما لم يكن الأساس موجوداً". وأوضح أنّ استعادة الثقة لا تعني تطبيق الأنظمة الدولية المطلوبة من صندوق النقد الدولي (IMF) أو غيره من المنظمات الدولية على الورق، بل تطبيقها على الأرض، مشدداً على ضرورة الفصل بين المصارف والقطاع المالي من جهة، والقطاع السياسي من جهة أخرى.
وأضاف صليبا أنّ الحوكمة أساسية، لأنّ مجالس إدارات المصارف هي التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه اليوم، ويجب حلّها. وأكد أنّه "يجب أن تتغير تصرفات المصارف، وأن تبدأ بإعادة أموال المودعين، إذ قبل الأزمة كان الزبون يُعتبر "ملكاً"، أما اليوم فيُظلم المودع عندما يُسمح له بسحب 400 دولار فقط في الشهر". أما بالنسبة لتقسيم الودائع وتفصيلها، فاعتبر صليبا أنّها "مجرد لعبة سياسية"، مؤكداً أنّه لا يوجد أحد مؤهل أو مخوّل لإدراج الأموال بهذه الطريقة. وأضاف أنّ "الطاقات الفعالة والراغبة في إجراء إصلاحات فعلية مهمّشة بسبب الأهداف السياسية، وقال: "لا يجب أن ننتظر المغتربين أو تحويلاتهم أو عملهم لإعادة بناء الدولة، فالخارج يحتاج إلى حل مقبول ومُطبّق".
وأشار إلى أنّ "هناك مشاريع قوانين مقدّمة يمكن تطبيقها، وهي تساعد الدولة على الخروج من أزمتها، وقد طُبّقت في دول عدة، لكن السلطة السياسية لن تقبل بها لأنها تتيح للمواطن استعادة وديعته كاملة، ما يضرّ بمصالحها". وأضاف: "هناك مشاريع وخطط وتغيير في العملة وغير ذلك مما يؤثر على مصالح الطبقة الحاكمة". وأكد صليبا أنّ مشروع "المكننة" موجود، وأنّ أنظمته جاهزة ومقدّمة للدولة اللبنانية مجاناً، لكنها مرمية في الأدراج كغيرها. واستشهد بما حصل في شركة كهرباء لبنان عندما طُرح مشروع مكننة الجباية، إذ واجه اعتراضات أدّت إلى التراجع عنه، و"بالتالي عدنا إلى نقطة الصفر، ويجب على المواطن أن يصوّت لنفسه ولمصلحته قبل السلطة الحاكمة التي ترفض الإصلاحات".
واعتبر صليبا أنّ المديرين العامين في الوزارات، بل وحتى الوزراء والمصارف، لم يقوموا بأي خطوة أو تصرّف، فالمدير أو الوزير لم يستقل، والمصارف لم تغلق. وشدّد على أنّ إعادة هيكلة المصارف مليئة بالثغرات، و"هذه الثغرات خطيرة ويجب حلّها، إذ لم يُذكر في أي قانون حول إعادة الهيكلة أي شيء عن الأسواق المالية ودورها في العملية، ولا حتى عن بورصة بيروت التي ما زال الخلاف قائماً حول تعيين مجلس إدارتها". وأضاف: "القانون على الورق جيد، لكن هل تحددت الفجوة المالية؟ ومن هي المصارف القادرة على الصمود والبقاء؟ وما مدى مسؤولية المصارف؟". وختم بالقول إنّ "الوضع الجيوسياسي غير مفهوم ومقرّ، وهو أخطر من الفساد نفسه، لأنّ خرائط المنطقة تتغيّر، ما سينعكس على الصعيدين المالي والاقتصادي".
الحوكمة والشفافية مدخل لاستعادة الثقة
من جانبه، قال عضو لجنة الامتثال التابعة لجمعية المصارف في لبنان، ورئيس الامتثال للمجموعة في بنك فرنسابنك، فؤاد خليفة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك جزءاً بسيطاً من الإصلاحات تحقق، لكنه غير كافٍ. وأوضح أنّ "المطلوب كثير، وإذا لم يحصل اعتراف على صعيد الدولة والمؤسسات ككل، لا يمكن الخروج من الأزمة، فالودائع والأزمة المالية هي "عملية سرقة واضحة" أكثر منها مجرد أزمة مالية". وأكد أنّ "الإصلاحات خجولة، لكنها على الطريق الصحيح".
وأشار خليفة إلى أنّ أبرز الثغرات بين المنظومة المالية والقطاع المالي أنّ الأخير كان ملتزماً بمطالب FATF، بينما القطاع غير المالي (مثل تجار المجوهرات وكتّاب العدل وغيرهم) لم يكن ملتزماً. وأضاف أنّ التعاون بين لبنان والمنظمات الدولية جيد رغم بقاء لبنان على اللائحة الرمادية، موضحاً أنّ "المصارف المراسلة ما زالت تتعامل مع لبنان، وبالتالي كان هناك امتثال من قبل القطاع المالي والمصرفي، فيما لا تزال المؤسسات الدولية على تواصل مع الدولة على اعتبار أنّ القطاع المالي ملتزم".
وتابع خليفة أنّ "اعتماد المكننة يعزز الشفافية والثقة في القطاع المصرفي، لكن اليوم يتضح أنّ الجرائم المالية تتزايد في ظل النظام الرقمي الجديد. لذلك، المطلوب هو الشفافية والتواصل الصادق مع المواطن، ونقل المشكلة إليه بوضوح، وإخباره بمصير ودائعه بشفافية، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية"، مؤكدا أنّ الانهيار الاقتصادي في لبنان لم يكن نتيجة سوء إدارة فحسب، بل نتيجة "هندسة ممنهجة" استندت إلى الفساد وتضارب المصالح وغياب الشفافية. وأوضح أنّ "الدين العام تضاعف ثلاث مرات في غضون عقدين، فيما تدهورت الخدمات العامة وسُحبت المليارات عبر قنوات غير شفافة، ما جعل النظام المالي عرضة للانهيار البنيوي". وأكد خليفة أن القمة لا تهدف إلى "ترقيع النظام القائم"، بل إلى الدفع نحو إصلاح جذري يجعل الفساد غير مربح وغير مقبول اجتماعيًا وقانونيًا.
واختُتمت أعمال قمة خليفة للاستشارات لمكافحة الجرائم المالية لعام 2025 في بيروت، التي عُقدت برعاية وزير الداخلية أحمد الحجّار، ممثّلًا بالعميد زياد قائد بَي، وجمعت أكثر من 250 خبيرًا وقائدًا في مجالات المال، القانون، التنظيم، الأمن السيبراني، والحوكمة. وقد ناقشت القمة التهديدات المتزايدة للجرائم المالية في المنطقة، وطرحت خطة إصلاحية شاملة ترتكز على ست ركائز أساسية مثل تعزيز الشفافية، استقلالية القضاء، التدقيق في الثروات، حماية المبلّغين عن الفساد، إدماج تقنيات البلوكتشاين في الحوكمة، وربط المساعدات الدولية بشروط صارمة للمساءلة.
الإصلاح خيار وجودي لا تجميلي
خلصت مداولات القمة إلى أنّ لبنان يقف اليوم أمام مفترق مصيري: إمّا المضي في إصلاحات حقيقية تعيد الثقة بالنظام المالي، وإمّا البقاء في دائرة الانهيار الممنهج. فالمصارف، بحسب الخبراء، مطالَبة بإظهار حسن النية عبر تطبيق فعلي للحوكمة واستعادة حقوق المودعين، في حين أنّ السلطة السياسية مدعوة إلى تحرير المؤسسات من قبضة المصالح الخاصة وإقرار التشريعات المؤجلة منذ سنوات.
ورأى المشاركون أنّ "الفساد لم يعد مجرّد خلل إداري، بل منظومة متكاملة عطّلت الرقابة وأفرغت الدولة من وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية، ما جعل أي خطة إنقاذ بلا جدوى من دون شفافية ومساءلة حقيقية. ويعتقدون أنه "رغم أنّ الطريق إلى التعافي طويل، فإنّ الإرادة السياسية الصادقة، إلى جانب الإرادة الشعبية، يمكن أن تشكّل المدخل لإعادة بناء مؤسسات قادرة على حماية المال العام واستعادة مكانة لبنان في النظام المالي الإقليمي. فالمعركة ضد الفساد لم تعد خياراً، بل شرطاً لوجود اقتصاد قابل للحياة".
