
عربي
لا أحد يختار البلد الذي وُلد فيه. ومع ذلك، عليه أن يُثبت حبّه له. حتى لو لم يقدّم هذا الوطن بدوره ما يُثبت أنه ينظر بعين مُحبَّة للإنسان الذي ترعرع في وطنه ليصبح هذا الرجل أو المرأة اللذين عليهما، وعليهما أن يعبّرا عن الحبّ والولاء والامتنان لأنهما وُلدا فيه، حتى إن لم يوفّر لهما العيش الكريم، وإلا فيوصفان بالخيانة ونكران الجميل، أيُّ جميل؟... لا أحد يعرف، إلّا إن أراد الوطن نسب منّة الإنجاب إليه بدل الأمهات... كيف يعبّر المرء عن حبّه لوطنه؟
في المعايير المثالية، هناك تعبيراتٌ كثيرةٌ عنه، مثل البناء والنقد، أمّا في المعايير "العالمثالثية"، فالحبّ غالباً ما يعني السكوت عن المساوئ، والتغنّي بالشوفينية، وطاعة السّلطة. المعارضون للسلطة "خونة" بشكل ما، فهذا الوطن صار مجسّداً في حقائق ثابتة، يُعبّر عنها المسؤولون. وإذا ارتفع صوتٌ معارض نُظر إليه نظرة صاحب الحقّ إلى المفتري. فلا ينبغي أن يرتفع صوت ضد أُولي الأمر، إلّا إذا كان مدفوعاً من أجندات خارجية تروم المسّ بأمن الوطن، إذ لا يمكن لإنسان "يحبّ وطنه" أن ينتقد ويعترض.
منذ أسبوعين في المغرب، وفي حدث فريد، سلّم أبٌ ابنه، بعد أن قام بأعمال شغب، للشرطة متخلّياً عنه "من أجل الوطن"، الذي يُقدِّم له رقبته ورقبة ابنه، بحسب تصريحه. وهو نموذجٌ آخر للسّلوك الأبوي، مناقض للآباء الآخرين الذين خرجوا في الإعلام باكين أبناءهم الأبرياء، الذين كانوا مارّين وذاهبين لشراء الخبز أو عائدين من عملهم ولم يرتكبوا سوءاً واعتقلوا، رغم أن بعضهم شاركوا في عمليات الشغب.
من الصعب فهمُ الموقفَين، أن تكون مع الوطن ضدّ الولد، أو مع الولد ولو كان ضدّ الوطن. لأن المفترض أن يكونا واحداً، ثمّ ما الوطن؟ هل هو حكومة وسلطة وأجهزة، أم مستقبل ضائع، أم أمومة تخلّت عن ولدها للشارع؟
الأبُ الأول نموذج للوطن الكافر بأبنائه. لعلّهم صاروا عبئاً عليه وكائنات عاقّة ومؤذية، لكن ذلك كلّه عليه، فهو من لم يربّ ومن لم يمنح ومن لم يُعلّم، لذا كانت النتيجة أن هذا الجزء من لحمه، الذي يفترض أن يفديه بدمه، صار عبئاً يُقدّمه بطيب خاطر للدولة. وهي الدولة نفسها التي لم تُساعده في مهام الأبوّة، ولا في التربية والتعليم، ولم تمنح لهذا الابن، الذي ابتُلي بهذا الأب، خيارات أخرى ليكون شخصاً غير هذا المُخرّب.
لو كان الأب أباً حقيقياً، لا والداً بيولوجياً، كم كانت نسبة أن يكبر الولد مُخرّباً؟ لو كان الوطن أباً وأمّاً كم كانت لتنخفض حتى تتلاشى الاحتمالات في ضياعه؟ "جيل زد" الذي خرج إلى الشارع منذ أسابيع، كان نموذجاً مشرّفاً لأبناء وطن ما، أيُّ وطن، وماذا كانت ردّة فعل الدولة التي تجسّد "الوطن"؟ حوصروا، وحُملوا بالقوة إلى مراكز الشرطة، في خطوة تهدد مستقبلهم بوصمهم بسوابق جنائية في سجلاتهم. وكل ما ارتكبوه أنهم خرجوا محتجين، وهو فعل يحميه الدستور نفسه. أيُّ مستقبل مهني لمئات المُتابَعين بتهم ثقيلة؟ وهم شباب متعلّم، المستقبل كله أمامهم، ولم يجعلهم هذا يتخلّون عن وعي متفجّر بالحالة العامة للمجتمع.
حين شتّت شمل الشباب السّوي الذي حاول جاهداً البقاء في طريق المواطنة، خرج الذين تنكّر لهم الوطن، وبادلوه الغضب والكراهية. الشباب الذين قد يتنكّر لهم آباء كثيرون، أمّا الأمهات فهن ضمير الإنسان، ولعنتُهنّ أنهن الوطن الحقيقي. يتنكّر الجميع للمرء، يتنكّر هو للجميع، يقتل ويدمّر. وهذا الوطن الذي من لحم ودم، يراه ضحيةً حتى وهو أشدّ الناس إجراماً. لعلّ هذا الوطن هو الوطن الحقيقي الذي يحتضن أبناءه مهما فعلوا، ويوفّر لهم فرصاً مستمرّة للتحسّن والنمو والازدهار، والعودة من الطرق الخاطئة. هل سيتنكّر هؤلاء لمثل هذا الوطن؟
وطن كالأمّهات، يرعى ويربّي ويحنو، ويستثمر في الولد، سواء أكان سلس المعشر أم صعب المراس. إلى جانب ذلك، عليه أن يكون المعلّم والحارس والناهي عن الشرور. وهذا الوطن هو الذي نطمح إليه جميعاً.
