
عربي
لم يكن العدوان الإسرائيلي على غزة مجردة حربٍ عسكريةٍ فقط، إذ شكل التضليل عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي جزءاً كبيراً منه، وهو ما وصفه المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة) في تقريره الأخير بأنه "حرب بلا رصاص"، لا تستهدف الجسد فقط، بل الوعي الجمعي للشباب الفلسطينيين.
يرصد التقرير كيف تحوّل التضليل المعلوماتي إلى إحدى أبرز أدوات الحرب الإسرائيلية، ليس فقط لتبرير الإبادة، بل لإعادة تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني والعالمي، خاصةً لدى الشباب الفلسطينيين، الذين يعيشون في حالة هشاشة معرفية غير مسبوقة في مواجهة التضليل الرقمي. وفي الوقت الذي يعتقد فيه الكثير من الشباب أنهم الأكثر تمرساً في كشف المعلومات المضللة، أظهرت الدراسات التي استندت إليها "حملة" إلى أنّ معظمهم يفشل في التمييز بين الأخبار الموثوقة والمزيفة، وهو ما يعود إلى انغماسهم المفرط في العالم الرقمي، وضعف التفكير النقدي، وغياب مهارات التحقق من المصادر.
وفي حين شاركت أطراف مختلفة في نشر المعلومات المضللة خلال حرب الإبادة على غزة، بينها الحكومات الغربية، إلا أنّ دولة الاحتلال بقيت في الصدارة من دون منازع. فقد استخدمت إسرائيل التضليل المعلوماتي بشكل ممنهج بوصفه أداة استراتيجية لدعم عملياتها العسكرية عبر التحكم في الرواية الإعلامية، وتبرير جرائم الحرب أمام المجتمع الدولي، ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين وتعميق الصراعات بينهم.
لم يكن التضليل الإعلامي الإسرائيلي عشوائياً، بل سلاحاً مؤثراً خارج ساحة المعركة المباشرة، واعتمد على عدّة أدوات أساسية، أبرزها الذكاء الاصطناعي، الذي استخدم لصنع محتوى يخدم أهدافها السياسية والعسكرية. ولجأت إسرائيل إلى استخدام تقنيات مختلفة، أبرزها التزييف العميق (ديب فايك)، لإنتاج مقاطع فيديو وصور مزيّفة من غزة، لتبرير عمليات القتل الجماعي أو لتصوير المقاومة الفلسطينية كنشاط إرهابي.
كذلك، أنشأت آلاف الحسابات الوهمية والمؤتمتة لإغراق منصات التواصل بسيل من المعلومات المضللة، بحسب مركز "حملة"، الذي أشار إلى تقارير تؤكد أن واحداً من كل خمس حسابات شاركت في النقاشات على الإنترنت خلال الأسابيع الأولى للحرب كان وهمياً، وأن بعضها انتحل هويات مواطنين أميركيين لنشر تعليقات مؤيدة لإسرائيل على صفحات أعضاء في الكونغرس.
واعتمدت إسرائيل أيضاً على حملات إعلانية إلكترونية بلغت قيمتها ملايين الدولارات على "غوغل" و"يوتيوب" لنشر مواد دعائية مضللة تستهدف الرأي العام الأوروبي والأميركي، في تجاوز للقوانين الأوروبية التي تحظر تحقيق إيرادات إعلانية من مواد تحتوي تلاعباً أو تضليلاً.
واستفادت إسرائيل من تواطؤ كبرى شركات منصات التواصل الاجتماعي، التي اعتمدت ولا تزال على التلاعب بالخوارزميات. وأثبتت تقارير مختلفة، بحسب "حملة"، أن "غوغل" و"ميتا" مارستا رقابة ممنهجة على المحتوى الفلسطيني، عبر تقييد الوصول وحجب المنشورات التي توثق جرائم الاحتلال، وصولاً إلى حذف الحسابات. في المقابل، سمحت هذه الشركات للدعاية الإسرائيلية بالانتشار على نطاق واسع.
في الوقت نفسه، عمد الاحتلال إلى تدمير البنية التحتية للإعلام في غزة منذ الأيام الأولى للحرب، كما فرض رقابة عسكرية مشددة على الصحافة ومنع دخول المراسلين الأجانب إلى القطاع، وعمد طوال عامين إلى استهداف وقتل الصحافيين الفلسطينيين بشكل ممنهج، وهو ما أسهم في تسهيل عمليات التضليل المعلومات.
وكان للتضليل الإسرائيلي تأثير عميق على الفلسطينيين، بحسب مركز "حملة"، إذ قاد انتشار المعلومات المضللة حول المناطق الآمنة والممرّات الإنسانية إلى قرارات خطيرة أدّت إلى استشهاد الفلسطينيين. كذلك، ساهم التلاعب بالمعلومات في تضليل صُنّاع القرار الدوليين ودفعهم إلى تبنّي سياسات منحازة.
ولفت "حملة" إلى أنّ التضليل أضعف السلامة النفسية والمعرفية للشباب الفلسطينيين، وعمّق الخوف والارتباك الإدراكي، وقوّض ثقتهم بالمؤسسات الإعلامية، وكذلك بشركات التكنولوجيا. كما أنّه أضر بالعدالة المعرفيّة للفلسطينيين، إذ جُرّدت أصواتهم من المصداقية في الفضاء الإعلامي العالمي، ورأى المركز أنّ هذا النمط من التضليل جعل حرب الإبادة على غزة حربين: "حربٌ على الأرض، وأخرى على الحقيقة والوعي، تُخاض فيها الصور والخوارزميّات كسلاح لإضعاف الفلسطينيين والسيطرة على روايتهم".
وقال مدير "حملة"، نديم الناشف: "الحرب على الحقيقة ليست هامشاً للحرب على الأرض، بل هي شرط لاستمرارها. حين تتحكّم الخوارزميات بما نراه ونسمعه، يصبح التضليل سلاحاً يُصيب الوعي قبل الجسد. حماية الشباب الفلسطينيين اليوم تعني حماية حقّهم في المعرفة، وفي أن يرووا واقعهم بأصواتهم دون تحيّزٍ أو قمعٍ رقمي".
وخلص تقرير "حملة" إلى جملة من التوصيات. فمن ناحية التعليم، دعا المركز إلى تطوير برامج تدريبية للشباب الفلسطينيين حول الثقيف الرقمي والتربية الإعلامية وكشف التضليل. كذلك، إطلاق حملات توعية عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما طالب بتعديل الأطر القانونية الدولية، واعتبار التضليل المعلوماتي شكلاً من أشكال انتهاكات حقوق الإنسان، إضافةً إلى الضغط على شركات التكنولوجيا الكبرى لتصحيح تحيّزاتها الخوارزمية وتحقيق العدالة الرقمية للفلسطينيين.

أخبار ذات صلة.

تحدّيات لا بد من مواجهتها
العربي الجديد
منذ 59 دقيقة

اللاتواصل في زمن التواصل
العربي الجديد
منذ ساعة