
تختتم جماعة الحوثي المرحلة الأولى من دورات التعبئة القتالية الإلزامية المسماة بـ”طوفان الأقصى”، والتي فرضتها على المدنيين في مناطق سيطرتها، مستهدفةً شريحة واسعة من الموظفين والأكاديميين في المؤسسات التعليمية من جامعات ومدارس، إضافة إلى العاملين في القطاعات الخدمية، وبعض المدنيين في الأحياء والمناطق الريفية على مستوى المديريات والعُزل والمحافظات.
هذه الدورات لم تكن اختيارية؛ إذ أُجبر على حضورها الأكاديميون والمعلمون في المؤسسات التي تخضع لسيطرة “الحارس القضائي”، فضلاً عن بعض الشخصيات الاجتماعية وسكان تم تصنيفهم كمشبوهين في ولائهم أو معروفين بمواقفهم المعارضة للجماعة.
في ختام هذه الدورات، منحت الجماعة المشاركين شهادات رسمية، وأدرجت أسماءهم ضمن قوائم الاحتياط التابعة لوزارة دفاعها، كما شرعت خلال الأسابيع الماضية في تنفيذ إجراءات ميدانية عبر لجان متخصصة لأخذ البصمات والصور الشخصية وتجهيز ملفات عسكرية تمهيداً لاستخراج بطائق عسكرية لهم.
وكانت الجماعة قد أعلنت في وقتٍ سابق عن تخريج 1,103,647 مشاركاً من “المستوى الأول” لدورات “طوفان الأقصى”، و132,046 من “المستوى الثاني”، معتبرةً ذلك جزءاً مما تسميه “مساهمة اليمن في نصرة القضية الفلسطينية”.
غير أن تحليل هذا المشروع يكشف أنه يتجاوز الشعارات المعلنة؛ فهو ليس نشاطاً تعبويًا عابراً، بل منظومة مؤسسية متكاملة ذات طابع أمني وعقائدي، تنسج شبكة واسعة داخل المجتمع بإدارة مركزية محكمة. فكلما تعمق الباحث في تفاصيل هذه التجربة، اتضح أنها عملية ممنهجة لإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤية أيديولوجية صارمة.
تشكل “دورات طوفان الأقصى” تحوّلًا نوعيًا في أدوات التعبئة الحوثية، إذ تجاوزت الطابع التعبوي التقليدي القائم على التحريض اللحظي، لتصبح أداة استراتيجية لإعادة صياغة البنية الاجتماعية والفكرية للمجتمع على أسس مستمدة من تجربة الحرس الثوري الإيراني وذراعه التعبوي الباسيج.
وكما بُني “الباسيج” في إيران على فكرة الحشد العقائدي الشامل وتجنيد المجتمع لخدمة “الثورة”، تسعى الجماعة الحوثية إلى استنساخ النموذج ذاته في اليمن، عبر بناء قاعدة جماهيرية مؤدلجة تتبنى فكر “الولاية” بوصفه جزءاً من العقيدة الدينية، وترسخ “العداء للآخر” كعقيدة قتالية لا كموقف سياسي.
هذا التشابه بين التجربتين يتجاوز البنية التنظيمية ليصل إلى جوهر الفلسفة العقائدية نفسها؛ فالفرد يُعاد إنتاجه ليصبح أداة طيّعة في منظومة الولاء العابر للحدود، حيث تُرفع طهران إلى مرتبة المرجعية العليا فكرياً وسلوكياً. وهكذا لا تكتفي الجماعة بتجنيد الأفراد، بل تُعيد هندسة الولاءات لإقامة ما يشبه “دولة موازية” داخل الدولة، قائمة على منطق “الثورة الدائمة” و”العداء المقدس”.
في جوهرها، تمثل هذه الدورات منظومة تعبئة فكرية ونفسية متكاملة، تعيد تعريف علاقة الفرد بالدولة والمجتمع، وتحوله من مواطن مدني إلى جندي في مشروع أيديولوجي عابر للحدود. ومن خلالها، تحاول الجماعة بناء نسخة يمنية من “الباسيج”، تؤدي أدواراً عسكرية وأمنية ودعائية واجتماعية، في إطار مشروع طويل المدى لترسيخ حضورها كقوة عقائدية منظمة، لا مجرد ميليشيا محلية.
إن فهم طبيعة هذا النظام التعبوي هو المفتاح لفهم مستقبل الجماعة ومشروعها، فهو يشكل البنية التحتية الأيديولوجية للحروب المقبلة، ويكشف عن عقلية دولة عقائدية تتأهب لمعركة لا تتوقف عند حدود اليمن، بل تتجاوزها نحو فضاء أوسع من الولاء العابر للسيادة والانتماء الوطني.
The post “حوثنة المجتمع” وتحوّل التعبئة العقائدية بعد طوفان الأقصى appeared first on يمن مونيتور.