عربي
في المجتمعات الخارجة من صراعٍ داخلي أو حربٍ أهليةٍ طويلة، يبرز الخوف من احتمال تفجّر نزعات الانتقام الطائفي أو القومي، ومن صعوبة الانتقال من نموذج الفصائلية إلى نموذج الدولة وجيشها المُنضبط.
وعند النظر بعمق إلى هذين العاملين في الحالة السورية، نجد أنّ تجربة سورية تكتسب خصوصيةً لافتة. فعندما نُقارن مرحلة ما بعد سقوط النظام في العراق بما يجري اليوم في سورية، تتبدّى أمامنا تجربة مختلفة في جوهرها ونتائجها.
في العراق، ورغم أنّ النظام سقط من دون حربٍ أهلية طويلة، بلغ عدد ضحايا العنف الطائفي بعد سقوطه ما بين 150 و200 ألف شخص. أما في سورية، وبرغم المأساة الكبرى التي عاشها السوريون طيلة سنوات الصراع، فإنّ عدد ضحايا العنف الطائفي بعد انهيار النظام لا يزال محدودًا نسبيًا، لا يتجاوز بضعة آلاف.
قد لا تكون الأزمة انتهت بعد، لكن الوعي الجمعي بات يدرك اليوم أنّ طريق المستقبل لا يُبنى على الثأر
هذه المقارنة تفتح الباب أمام القول إنّ المجتمع السوري بلغ درجة متقدّمة من الوعي مكّنته من كبح جماح الانتقام وتجاوز صفحات الماضي المؤلمة بروحٍ من العفو والتسامح مع التأكيد أنّ العنف مرفوض ومُدان في كلّ الأحوال، بغضّ النظر عن الفاعل أو المُبرّر.
تاريخيًا، كانت محاولات "الإخضاع الطائفي أو القومي" في أيّ مجتمع تُكلّف أثمانًا بشرية باهظة. فالنظام العراقي السابق حاول إخضاع الأكراد، لكن سياساته تلك أفرزت كوارث إنسانية وانتهت برفضٍ دولي واسع. وبعد سقوطه، تبادلت الأطراف العراقية أدوار السيطرة، فحاول الشيعة إخضاع السنة، وكانت الكلفة الإنسانية والسياسية مرتفعة، لكنها جرت هذه المرّة تحت مظلّة دولية مُتسامحة لأنها انسجمت مع مشاريع غربية مرسومة مسبقًا للعراق.
والتاريخ مليءٌ بالأمثلة التي تؤكّد فشل الإخضاع في بناء الدول. فمُحاولات مدريد لإخضاع الكتالونيين لم تنجح رغم عقودٍ من الضغط، وكذلك الحال في مقاطعة كيبيك الكندية، حيث انتصر الوعي المجتمعي ومبدأ التعايش على نزعة الإكراه والهيمنة.
أما على صعيد الانتقال من الحالة الفصائلية إلى تشكيل جيشٍ وطني مُنضبط، فتبدو المقارنة مع التجربة الليبية كاشفة. فليبيا، رغم مرور أكثر من أربعة عشر عامًا على سقوط النظام، لا تزال تعاني من انقساماتٍ فصائلية حادة، خصوصًا في غرب البلاد. بينما يُظهر المشهد السوري اليوم قدرًا أكبر من التماسك؛ إذ يميل التوجّه العام في الداخل نحو الاستقرار وإعادة التنظيم، لا نحو التفكّك أو إعادة إنتاج الصراع.
على النُخب من مختلف المكوّنات أن تجلس إلى طاولة واحدة لتضع معايير مُشتركة للحكم والتعايش
وقد بادر الجيش السوري مؤخّرًا إلى الاعتماد على الضباط المنشقين للاستفادة من خبراتهم، كما يُتداول الحديث عن إمكانية الاستعانة ببعض الضباط غير المنشقين ممّن لم تتلطّخ أيديهم بدماء المدنيين، في خطوةٍ تعكس توجّهًا براغماتيًا نحو المصالحة وإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية.
خلاصة القول: إنّ المجتمع السوري يسير بخطى واثقة نحو تضميد جراحه وبناء حالةٍ جديدة من التوازن والاستقرار. قد لا تكون الأزمة قد انتهت بعد، لكن الوعي الجمعي بات يدرك اليوم أنّ طريق المستقبل لا يُبنى على الثأر، بل على التفاهم والتعايش.
من هنا، فإنّ البديل الحقيقي لنهج الإخضاع هو الحوار والتفاهم. وعلى النُخب من مختلف المكوّنات أن تجلس إلى طاولة واحدة لتضع معايير مُشتركة للحكم والتعايش، بعيدًا عن خطاب التحريض والكراهية. فالدول التي تبني استقرارها على الإقصاء سرعان ما تكتشف هشاشتها، لأنّ الحقد المطمور في الوعي الجمعي يبقى ينتظر الشرارة التي تُعيد إشعال النار من جديد.
إنّ بناء سورية الجديدة لا يحتاج فقط إلى إعادة إعمار الحجر، بل إلى ترسيخ الوعي ورفع مستوى الثقافة المجتمعية، بحيث يصبح قبول الآخر جزءًا من البنية الأخلاقية والوطنية. عندها فقط يمكن القول إنّ سورية بدأت حقًا عهدها الجديد.
أخبار ذات صلة.

اتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية في اليابان
العربي الجديد
منذ 12 دقيقة