
عربي
قال سياسي فرنسي معروف، في برنامج حواري في قناة تلفزية فرنسية، تعلّق بالأزمة الحكومية التي تعصف بفرنسا في سلسلة أزمات متلاحقة، إنه يشعر بالخجل من عجز مؤسّسات بلده، وخصوصاً الرئاسة، عن ابتداع الحلول المناسبة والجريئة للخروج من هذا الوضع، وأضاف أنه "يشكر الظروف الدولية التي جعلت الأضواء والعيون أقل تركيزاً على فرنسا في هذا التوقيت"، وقد عارضه في هذا بشدّة كل المتحاورين تقريباً على اختلاف مشاربهم وألوانهم السياسية، ففرنسا في قلب الأحداث ومحرّك أساسي لها، قصدت أو لم تقصد، ولذلك العيون عليها، عيون إسرائيل وواشنطن واللوبيات الناشطة والمؤثرة داخل فرنسا وخارجها، وعيون المتنافسين داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، والخصوم المهادنون حالياً يراقبون ما يحدُث في أروقة السياسة الفرنسية عن كثب، تزامناً مع الحدث الأهم: اتفاق إنهاء الحرب في غزّة والزخم السياسي والديبلوماسي والإنساني الذي يرافقه، والذي بدا كأنه يُدير عنق العالم برمّته نحو الشرق الأوسط والمحطّات المقبلة التي يفترض أن يبدأ الاتفاق في التوقف عندها مرحلة مرحلة، إذا ما سارت الأمور بالشكل الذي تأمله الأطراف الساعية إلى تهدئة حقيقية ودائمة. ولذلك لم يخطئ السياسي الفرنسي تماماً، حين تراءى له أن العالم منشغلٌ عن فرنسا حالياً، ولم يخطئ من صحّحوا له بالتأكيد أن فرنسا جزء أصيل من المشهد الشرق أوسطي المركّب والمتراكم.
يجمع العارفون بالشأن الإسرائيلي والغربي على أن الانعطافة الكبرى التي سرّعت التوصّل إلى اتفاق غزّة، تمثلت في موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي أطلقتها فرنسا، وبشكل شخصي رئيسها الشاب المثير للجدل إيمانويل ماكرون، والتي شهدت ذروتها في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) في قمّة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي شهدت اعتراف 11 دولة بها، رغم ما شاب هذه الاعترافات من شكوك في الدوافع والمآلات، بين عربٍ يرون أنها تمنح الفلسطينيين سراباً أو شبه دويلة على ما سيتبقى لهم من أرض، وأنها جاءت في توقيت قاتل ينقذ نتنياهو وحكومته التي تحفر قبر إسرائيل بلا هوادة أو إدراك فداحة ما تأتيه من فعل أعمى، وحلفاء يرون في الخطوة الفرنسية الماكرونية مزايدة عليهم وحبّاً في اختلاف غير محسوب العواقب، وفي حدّه الأدنى هروباً من أزماتٍ داخليةٍ حادّة تكاد تقتلع ماكرون من عرش الإليزيه. ورغم ذلك، وأمام الحرج الكبير الذي سبّبته خطوة ماكرون المتقدّمة جدّاً لدول في الاتحاد الأوروبي وخارجه، وأمام سخط مجتمعي وسياسي داخلي متزايد، اضطرّ بعض هذه الدول إلى النسج على المنوال الفرنسي، فيما قدّمت أخرى وعوداً بالاعتراف لاحقاً "في الوقت المناسب". وأمام جلّ حكومات الغرب، تُمثل أحزاب اليمين المتربّصة التي تقتات من الأزمات المجتمعية والاقتصادية والأمنية، والتي يربط بينها جميعاً بشكل عجيب ملفّ الهجرة، وفي وجهه الآخر القضية الفلسطينية وحرب غزّة التي أخرجت إلى السطح ما كان خافياً أو صامتاً كرهاً، لينقلب الحال، بعد عامين من مظاهراتٍ ومسيراتٍ لم تهدأ، إلى مساءلة ومطالبة بإجابات واضحة من أغلب الحكومات المتواطئة.
يبدو أداء أحزاب اليمين الأوروبي أقرب إلى جوقة تتحرّك في الاتجاه نفسه، وترفع الشعارات نفسها عن خطورة تنامي أعداد المهاجرين وتضخّم المساحات التي استحوذوا عليها في الفضاء العام
ينطلق ماكرون الرئيس المثقف المتشبع "فكرياً" بقيم الجمهورية الفرنسية رغم الغبار الذي بدأ، منذ سنوات عديدة، يأخذ من بريق شعاراتها وألقها، والذي يصفه سياسيون أوروبيون بـ"المفكر المؤثر" في مسائل تتعلّق بمفهوم "الاستقلالية الاستراتيجية" لتطوير الاتحاد، ينطلق ويحتمي، في الوقت نفسه، بهوية فرنسا "التنويرية" التي يُفترض أن تقود لا أن تُقاد، وبوعود التجديد وكسر التقاليد السياسية التي حملها عندما تولّى الحكم عام 2017. ولكن الأحداث يبدو أنها سارت بسرعة، والعالم من حوله كذلك أخذ في التغيّر بوتيرة تجاوزت قدرته على بلورة أفكاره الجريئة والطازجة إلى سياسات يملك أدوات إنجازها، فضلاً عن المشكلات الشخصية التي أُثيرت من حوله، وأخذت من جهده وطاقته ومزاجه ووقته، حتى إن تعليقاتٍ عديدة تُجمع على أن من ينظر إلى وجهه اليوم يخال له أنه يبدو أكبر من عمره الحقيقي بكثير، والفرنسيون لا يرحمون في هذه المسائل.
ليست السياسة كلها، ولا معظمها، مبادئ، وإن بدت كذلك أحياناً. وضمن هذا الهامش، تحرّك ماكرون في إقدامه على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وما رافق خطوته من صخبٍ، بين ترحيب وتثمين وسخط وتشكيك، وسط خلافٍ مكتومٍ بصعوبة مع سيد البيت الأبيض وتهديدات المتطرّفين داخل حكومة نتنياهو. وذلك في أعقاب خروجٍ فرنسيٍّ مهين من منطقة الساحل والصحراء الثرية بما تحتاجه قوة فرنسا، وبعد عقود من الحضور المثير للغضب المحلي وللمراقبة والترصد الخارجيين. وقد شكّل ذلك كله مادة لصراع سياسي شرس في الداخل مع اليمين واليسار معاً، إذ يناكف اليسار ماكرون وسياساته، "ربيب" الأوليغارشية التي يفعل ما يفعل ولا يفعل أيضاً استماتةً في الحفاظ على مصالحها، ويتنكّر لقيم الثورة التي أصبح بفضلها رئيساً لدولةٍ يفترض فيها الريادة في مسائل التحرّر وحقّ الشعوب في تقرير المصير، فردّ عليها بخطوة الاعتراف، ولكنها ليست فقط خطوةً لا تكفي، وتنطوي على انتهازيةٍ في تشخيص زعماء اليسار الفرنسي، بل ألّبت عليه اليمين بزعامة مارين لوبان التي طال انتظارها للإيفاء بوعدها والدها بتسلم دفّة فرنسا وإعادتها إلى "هيئتها التي تليق بها".
يقدّم وضع ماكرون المترنّح اليوم درساً لمن ينوي المضي في هذا المسار، ويلوّح بصعود اليمين عقاباً وتعديلاً وشيكاً للكفّة السياسية في ميلانها "الشاذّ"
وليس في أجندة اليمين الفرنسي، في حال صعوده، الأزمات الاجتماعية وفي مقدّمها ملفّ الهجرة القديم - المتجدّد فقط، إنما أيضاً العلاقة مع إسرائيل وحكومتها الحالية في اتجاه معاكس تماماً لسياسة ماكرون التي تحاول بصعوبة مسك العصا من الوسط ولم تسلم، ولأجندة اليسار ورموزه من شخصيات وأحزاب؛ "فرنسا الأبية" وزعيمه جون لوك ميلونشون، أو المخضرم دومينيك دو فيلبان وحزبه "فرنسا الإنسانية"، بعدما مثّل سنواتٍ طويلة اليمين الفرنسي المعتدل، واللذين يلتقيان في موقفٍ مبدئيٍّ من القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية وفي إدانة إسرائيل وحربها الوحشية على غزّة، وهو الموقف الذي يبدو أنهما يدفعان ثمنه على نحو موارب، يتستّر بعناوين تنعتهما باللاواقعية وبالرومانسية الثورية والخضوع لأجنداتٍ لا تعني حياة الفرنسيين في تفاصيلها اليومية. وفي المحصلة، تأتي استطلاعات الرأي لتُظهر أحدث نتائجها تقدّم اليمين ممثلاً بمارين لوبان والوجه الشاب جوردان بارديلا بنسبٍ مريحة أمام خصومهما من اليسار والوسط. وما الأزمة الحكومية أخيراً إلا جولة جديدة في مناورات مستمرّة لإطاحة الطبقة الحاكمة في فرنسا وتغيير المشهد برمّته.
ويعلم المهاجرون تحديداً أنهم في عين عاصفة التغيير المنشود، إذ يتهمون بأنهم أصبحوا قوّة تتحكّم بشكلٍ ما في حياة الفرنسيين ومصيرهم وتحدّد جل سياسات فرنسا الخارجية، وتبيّن تعاظم دورها هذا منذ بدء الحرب على غزّة تقريباً، وقد أدّى ضغطها المتواصل إلى تزعّم فرنسا/ ماكرون مبادرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خوفاً أو محاباةً، لا يهم، المهمّ بالنسبة إلى اليمين الفرنسي تخليص السياسة الفرنسية من هذه القبضة بالقوانين المجهّزة وبالعين الحمراء.
ويستمدّ التيار المتنامي قوته ويقينه بأن دوره في السلطة بات وشيكاً من نسخه الأخرى في الجوار، إذ يبدو أداء أحزاب اليمين الأوروبي أقرب إلى جوقة تتحرّك في الاتجاه نفسه، وترفع الشعارات نفسها عن خطورة تنامي أعداد المهاجرين وتضخّم المساحات التي استحوذوا عليها في الفضاء العام وفي المجتمع والاقتصاد والسياسة، إلى درجة تبديل طبيعة التحالفات التاريخية والتقليدية لبلدانهم. وكلمة السر الأكثر تداولاً في دوائر هذا اليمين، ومن يدفع به إلى المقدّمة، هو "العلاقة مع إسرائيل".
ولئن استبقَت ألمانيا تشكّل مشهدٍ لا ترغب فيه بتنظيمها انتخابات مبكّرة بداية هذا العام، فإنها على الأرجح لن تنجو منه في أول استحقاق انتخابي مقبل، وينسحب الأمر على أكثر من بلد أوروبي، فيما استقرّت الأمور لليمين الإيطالي، وبات يغازل بـ"إنجازاته" الاقتصادية اللافتة شهية الأوروبيين المنتظرين. ومن يقول اليمين الإيطالي، يقول جورجيا ميلوني، ومواقفها اللافتة بشأن أسطول الصمود، ومجمل مواقفها الداعمة إسرائيل من دون مواربة.
تشاء الظروف أن يكون ماكرون نموذجاً لدروسٍ عديدة، ولاعباً أو قطعة على رقعة الشطرنج، ستحدّد حركته ومناوراته مصير كثير من حكومات الغرب وأحزابه
في معركته السياسية الشرسة التي يخوضها اليوم، ويحاول القفز عليها بحرصه على مواكبة الأحداث الدولية والإقليمية الكبرى، يرفض بعضهم عمداً الإقرار بأن جانباً مهمّاً من هذه المعركة هو ثمن "جرأة" ماكرون في الإقرار بحقّ الفلسطينيين في دولة وحشد رأي عام دولي في سبيله، أياً كانت حساباته الشخصية. ويقدّم وضع ماكرون المترنّح اليوم درساً لمن ينوي المضي في هذا المسار، ويلوّح بصعود اليمين عقاباً وتعديلاً وشيكاً للكفّة السياسية في ميلانها "الشاذّ"، كما يتّضح لمن يريد أن يفهم كيف يُفرغ الحراك الشعبي والمجتمعي من مضمونه، وأن انشغال العالم حالياً باتفاق إنهاء الحرب في غزّة والتقاط الأنفاس بعد كوابيس لم تتوقف عامين سيرافقه عمل حثيث بدون ضجّة لافتة لامتصاص زخم الشارع الغربي الذي ضغط على إسرائيل، كما لم يحدث في تاريخها ولم تكن تتوقّع، وسيعزّز ذلك كله بخطّة دعائية ضخمة تهدف إلى إعادة صياغة السردية والصورة والحقيقة وستسخر لهذه الغاية أعتى وسائط التأثير، وما استحواذ الملياردير "الغامض" لاري أليسون على تطبيق تيك توك أخيراً "من أجل إسرائيل"، كما يروّج علناً، إلا إيذانٌ بمرحلة جديدة صعبة. وهذا رهانٌ شديد الأهمية يفرض عدم التفريط في المكاسب العظيمة التي تحقّقت على مدى العامين الماضيين، وعدم الاستكانة إلى بداية انفراجة يكتنف الغموض ما بعدها.
تشاء الظروف أن يكون الرئيس ماكرون نموذجاً لدروسٍ عديدة، ولاعباً أو قطعة على رقعة الشطرنج، ستحدّد حركته ومناوراته مصير كثير من حكومات الغرب وأحزابها التي في السلطة أو التي تسعى إليها، فيما اللاعبون والمشجّعون والمتفرّجون يعلمون أن الرهان الأهم للربح أو الخسارة تعديل بوصلة العلاقة مع إسرائيل وكبح جماح من اهتدوا أخيراً إلى الحقيقة التي غُيّبت زمناً طويلاً.
