حياةٌ من رماد في غزّة
عربي
منذ 4 أيام
مشاركة
إن كنتُ سأصف الحياة اليوم في غزّة، فأقول إن الحياة بلون الرماد هناك، في ذلك المكان الضيّق الذي لا يمكن أن يكون إلا سجناً سقفه السّماء، فإن هذا الوصف لا يكون مكتملاً حين أعني أنّ الحياة فقدت كل مقوّماتها الأساسية، وهي أدنى المقوّمات التي يمتلكها أي إنسان على وجه الأرض، وخصوصاً في تلك البلاد التي لا تتوقّف عن التشدّق بحقوق الإنسان، وضرورة المساواة بين البشر من دون تمييز. فهناك، في تلك البقعة النازفة والمُخضّبة بالدّم، لا توجد تلك المقوّمات الأوّلية. ولذلك ترى الحياة وكأنّها قد تحوّلت إلى لون الرّماد فعلاً، وكأنّ فرقة من فتية عابثين قد أشعلوا النار لتزجية وقتهم وسط حُرشٍ واسع، وحين لعبوا واستمتعوا بشواء ما لذّ وطاب، تركوا كلّ شيء خلفهم وعادوا ليمارسوا حياتهم اليومية غير عابئين ببقايا النار التي تركوها خلفهم، والتي تزحف شيئاً فشيئاً فتلتهم الأخضر حولها؛ وتحوّل أوسع مساحة على مرمى البصر إلى رماد أيضاً. هناك، في غزّة، وحيث أمضيتُ الشهور الثمانية الأولى من الحرب، فجأة تبدّلت الصورة أمام ناظريّ، كنت أرى اللون الأخضر حولي أينما تنقّلت، فالخُضرة والشجر هما سِمة طبيعة قطاع غزّة وبيئته، وخصوصاً حين تكون في الجنوب منه. وقد أصبحتُ فعلاً في مدينة خانيونس، ثم انتقلت إلى مدينة رفح، ولكني لم أعد أرى اللون الأخضر على الإطلاق، وحلّ مكانه لون الهمّ والحزن والكمد، وعلت الوجوه ملامح الحيرة والغضب والتساؤل الذي لا يجد إجابة. فأصبحت كل الوجوه تشبه بعضها، وأصبحت اللوحة أمامي خياماً ذات ألوانٍ كالحة، متراوحة ما بين السّواد ولون الرّماد فعلاً، وغاب إلى الأبد عن ناظري لون أشجار الزيتون واللوز والنخل. بل رأيتُ بأمّ عيني، وبدافع حبّ البقاء، أشخاصاً بؤساء لم يعودوا يملكون حيلة إلا أن يقتلعوا الأشجار لتصبح وقوداً لنارٍ يطهون فوقها ما يسدّ رمقهم. وخُيّل إليّ أن الأشجار تصرُخ وتبكي، لأنها اقتُلعت من المكان الذي كان عليها أن تبقى فيه متجذّرة ومختالة بغصونٍ تصافح السّماء وجذورٍ تشقّ الأرض، ولكنها فجأة أصبحت أغصاناً جافة ممدّدة على أرضٍ كالحة، في انتظار أن تصبح طعاماً للنار. إن كان عليّ أن أصف لون الحياة التي أصبحت من رمادٍ في غزة، فلكي يكون وصفي كاملاً يجب ألا أتوقّف عن وصف الحياة كما أسلفت. فهذه نتيجة حتميّة لحربٍ قضت على الأخضر واليابس عامين، في أرضٍ لا يملك أهلها من حياتهم إلا أقلّ القليل. ولكنهم كانوا قانعين وراضين، وكان مصدر سعادتهم أنهم متلاحمون مع أحبّتهم، فقد اكتشفوا أن هذا رأس مالهم ولا يملكون غيره، فتشبّثوا به. أما حين حلّ الفقد، وجاس الموت بمنجله في كل اتجاه، تحوّلت الحياة فعلاً، في وجوههم وقلوبهم، إلى رماد، وهم يحصلون على هدنة من الموت، ويحاولون أن يكونوا أكثر شجاعة أمام جبن العالم المتلكّئ طويلاً عن نصرتهم وإيقاف المجازر التي ارتُكبت بحقّ آدميّتهم. حين يرى الغزّي الرّكام أمام عينيه بدلاً من الجدران التي تعتليها صور الأحبّة في طفولتهم وتوثّق لحظات نجاحهم في صفوفهم، وحين يسمع أنين الذكريات من تحت الأنقاض، وكأنّ البيوت المهدّمة ما زالت تبكي أهلها الراحلين بلا عودة، وتعتذر للعائدين لأنها لم تعد قادرة على جمعهم والتظليل فوق رؤوسهم في حرٍّ أو برد، وحين يتحسّس بيديه المرتجفتين مفاتيح بيتٍ لم يعد قائماً، ولم يبقَ منه إلا حجارة مبعثرة، في هذه اللحظات يدرك فعلاً أن الحياة تنبع من الأرواح حين لا يكون هناك ألمٌ وحسرات، وحين يكون الأمل بديلاً عن كل هذا السّواد الملتفّ بالقلب وحناياه. وحين تُعلن القوى العظمى انتصارها، يُعلن الغزّيّ، كما اعتاد، أنه سوف يبقى في هذه المدينة الشّجاعة الرّمادية، التي تنتصر بإنسانيّتها، وتمسّك أهلها بإرادة الحياة التي لا تنكسر، وبروحٍ جماعية يشهد عليها العالم أجمع.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية