نبيل سليمان: المحن لم تفارق سورية منذ ضربها كابوس "البعث"
عربي
منذ 5 أيام
مشاركة
تتقاطع في الرواية أسئلة الذات والعالم، ويتماهى الواقعي مع المتخيّل، والكاتب السوري نبيل سليمان ممن جمعوا في منجزهم منذ نحو 60 عاماً بين النقد والرواية، بين الواقعي والمتخيل والفانتازي، عبر مساءلة النصوص والمسكوت عنه في الحياة والكتابة. حيث تصبح الكتابة طوافاً خارج الأرض المحروثة. كل ذلك سنناقشه معه في هذا الحوار. إذا كان الدين يبحث عن (وفي) حقيقة بعينها، فالفلسفة تبحث عن (وفي) حقائق. وإذا كان الارتياب والريبة في صميم الأدب إنتاجاً ومعاني فكريةً وجماليات، فالفلسفة ليست بعيدة عن ذلك في الغالب * هل تستطيع الذات الفردية مواجهة الزلازل الاجتماعية والسياسية والفكرية والأخلاقية من دون أن تلحق بها التشوّهات؟ وإلى أي مدى رصد الأدب في سورية هذه التشوهات في الذات السورية إثر ما لحق بها من زلازل ومحن؟ بقدر ما تبدو الذات الفردية أحياناً هشّة، سريعة العطب، تتناهبها مثلاً عواطف الحب أو الكراهية، أو أسئلة الكون الغامض، أو ألغاز الموت والحياة والإنجاب و... ومثل ذلك لا يُعدّ ولا يحصى، أقول: بالقدر ذاته، تبدو هذه الذات جبّارة، عصية، لا تفتأ تتطوّر وتتشكّل وتتجدد وتنهض وتنهار، و...، ومثل ذلك لا يُعدّ ولا يحصى. أما التشوّهات، فكأنما هي الأخرى قدر مقدور. ولكن، سواء أكانت كذلك أم بأي هيئة كانت، فليس من ذاتٍ معصومةٍ من التشوّهات، وفي ذلك كله ومنه، وإليه، هو الأدب والفن والفلسفة. بتحيين ذلك كله في سورية، بلغت الزلزلة والمحن أقصاها في ما عشناه منذ عام 2011. لكن الزلازل والمحن لم تفارق سورية منذ ضربها كابوس "البعث" عام 1963، وهذا لا يعني أن ما كنّا فيه قبل ذلك كان جنةً ونعيماً، فسورية ضربها كابوس العسكر منذ الانقلاب الأول عام 1949. وعلى أية حال، أحسب أن الأدب في سورية قد اكتوى بتلك الزلازل. وكما هو الحال مع الكيّ بعامة، كان حال الأدب، إذ ترك الكيّ شوهات، وكانت له معوّقاته، وبخاصة في الشعر والرواية، وبخاصة أكبر منذ 2011. * تدّعي الفلسفة أنها البحث عن الحقيقة، الدين لديه التصوّر ذاته، الأدب وحده يبدو مرتاباً في دوره، فهل هذا من صميم تكوينه القائم على الشك؟ إذا كان الدين يبحث عن (وفي) حقيقة بعينها، فالفلسفة تبحث عن (وفي) حقائق. وإذا كان الارتياب والريبة في صميم الأدب إنتاجاً ومعاني فكريةً وجماليات، فالفلسفة ليست بعيدة عن ذلك في الغالب، وربما في الأهم منها والأشمل. أما الدين فله اليقين والإيمان والتسليم. وإذا صحّ ذلك، فالفلسفة والأدب يتعانقان مهما يُقال في تمايزهما وخصوصية كل منهما. غير أن للأدب في هذا العناق (أو التفاعل أو الاندغام) ما يميزه ويخصّه. انظري إلى الفلسفي في روايات دوستويفسكي أو ألبير كامو أو أمبرتو إيكو أو كونديرا أو نجيب محفوظ. أنْ يكتوي الشعر أو المسرح أو الرواية بأسئلة الوجود والأخلاق والحقيقة/ الحقائق والمعنى... أي أن يعانق الدين أو الفلسفة، فهو لا يرطن بلغة الدين ولا بلغة الفلسفة. حسب الأدب أنه يقوم بخلخلة اليقينيات والمسلمات. وبالنسبة لي، ربما كان أكثر ما قاربت ذلك في روايتي تاريخ العيون المطفأة (2018)، وتحولات الإنسان الذهبي (2022). * هل يستطيع الأدب أن يصون الحقيقة الذاتية للإنسان من سلطة التاريخ والدين والسياسة؟ أم سيقتصر دوره على أن يكون الممرضة الطيبة التي تواسي المريض وتضمد جراحه؟ عندما يكتفي بدور الممرضة الطيبة يخون طبيعته التي تفكك السلطة وتسائلها، أياً تكن هذه السلطة، فكريةً أو عقائديةً أو أيديولوجيةً، وحاكمةً أم معارضةً، ومتجذرةً ضاربة في الزمن أم طارئةً وحديثةً وما بعد حديثة. وفي تفكيك الأدب للسلطة يكون صونه لجوهر الإنسان في الجمال والحرية والإبداع، وهل الحقيقة الذاتية، أو الحقائق الذاتية إن شئتِ، غير ذلك؟ * تكتب في أحدث أعمالك أوشام: "الآن آن لقناع السرد بالضمير الثالث (الغائب) أن يتنحى ليتقدم السرد بالضمير الأول (ضمير المتكلم) وتبدأ بعدها مباشرة: الأنا". ما هو الفارق الجوهري بالنسبة للروائي بين الضميرين؟ هل الضمير الثالث محاولة ليتنصل المؤلف من الحقيقة، ولذلك آثرتَ في سيرتك الروائية أو روايتك السيرية "المسلّة" منذ 1980 أن تكتب بالضمير الأول، وباسمك الصريح؟ لا، ليس الضمير الثالث محاولة من المؤلف للتنصل من الحقيقة. ثمة مواقف سردية، بالأحرى: (آنات) سردية، ربما يكون هذا الضمير هو الأوْلى بها. وبالإضافة إليه وإلى الضمير الأول (ضمير المتكلم)، لا تنسي الضمير الثاني، ضمير المخاطب (أنتَ). ثمّة رواياتٌ مبنيةٌ فقط على هذا الضمير. ومن المواقف/ الآنات السردية ما ينادي ضمير المخاطب فقط، حتى لو كانت العهدة في الرواية لأحد الضميرين الآخرين، أو لهما معاً. وقد لاعبتْ رواياتي، منذ "ينداح الطوفان" عام 1970، الضمائر الثلاثة بنسب متفاوتة، تحدّدها طبيعة الشخصية والموقف والحالة... وإذا كانت "المسلّة" قد اكتفت بضمير المتكلم معّززّاً باسمي، فلأن ذلك كان استجابة للسيرية. وكذلك الأمر في "أوشام" التي صنّفتها سيرةً، كما آثرت هذا التصنيف لــ"المسلّة" في طبعتها الأخيرة الخامسة. إنه سؤال السردية السيرية الذي جعل الراوية والشخصية المحورية في الرواية/ السيرة (المسلّة) يحمل اسمي الأول قبل خمسة وأربعين عاماً، عندما لم يكن حديث "التخييل الذاتي" معروفاً عربياً، كما كان لا يزال وليداً في سنته الثالثة، أي عام 1997 في فرنسا على يد سيرج دوبروفسكي. ولا أعرف من "اقترف" هذه الجريرة قبلي إلا غالب هلسا. * يلاحظ قارئ أعمالك أن ثمّة متعة يعايشها في سيرتك "أوشام"، وهي تختلف عن النبرة الموضوعية في "المسلّة"، إذ تبدو "أوشام" أكثر حميمية! هل هذا يعني أن السيرة الذاتية الأكثر كمالاً هي التي تؤرّخ لتاريخ الروح الفردية؟ أظن أن الأمر نسبيّ، وفردي، إذ يتعلق بذائقة القارئ/ة. ولعله يتعلق أيضاً لدى بعضهم وبعضهنّ بلذة التلصص على حياة الكاتب/ة. ... أليس في (أوشام نبرة موضوعية) حين تصطخب فيها وقائع/ أحداث الاعتداء على جسد كاتب معارض، أو التطوح من أقصى سورية إلى أقصاها أو...؟... وإذا صحّ ما تذهبين إليه فإن النبرة الموضوعية لعلها جاءت في "المسلّة" أعلى، ونالت بالتالي من "الحميمية" بفعل "التوثيق" لحرب 1973، فالوثائقية، في ما أحسب، هي صنو السيرية في "المسلّة". والآن، إذ أفكّر في سؤالك وفي "المسلّة"، أتساءل عمّا إذا كانت هذه الرواية أو السيرة مجبولة من عنصرين ليسا عاشقين، بينهما غربة أصلية، تذكّرني بما بين السردية الروائية والفلسفة. وبالمضيّ أبعد في هذا السبيل، يأتي السؤال ما إذا كانت النظريات والأفكار، عما إذا كانت الفلسفة إذ "تتسرّد"، يُعاد تشكيلها، تخليقها. وبالعودة إلى الوثائقي والسيري، يصير السؤال عما إذا كانت الوثيقة إذ "تتسرّد"، يعاد تشكيلها وتخليقها، ولذلك قلت مراراً بصدد رباعية "مدارات الشرق"، حيث للوثيقة ما لها، أن للرواية، أية رواية، أن تصدح: أنا الوثيقة، فهل يكون ذلك كله على حساب "الحميمية"؟ الفسيفساء السورية تصدّعت بعد زلزلة 2011، وبخاصة تحت ضربات النظام الأسدي الساقط، وتحت ضربات العسكرة والأسلمة * تقول في "أوشام": "والآن، بعد أكثر من سبعين سنة، أفكر بأن تلك البيوت هي التي جعلت في تكويني نبضاً كردياً ونبضاً شركسياً، نبضاً مسلماً وآخر مسيحياً"، كيف يعرّف نبيل سليمان الهوية، وكيف عبّرتَ عنها روائياً؟ من أين لي بتعريف جامع مانع للهوية؟ الهوية سؤال راعف ومفتوح في فضائنا منذ قرابة قرنين: هكذا كتبت عن "الإثنية والطائفية كصدوع هوياتية"، في كتابي "في التباب ونقضه" (2020)، ومنه انفجار الأسئلة: هل الهوية مقدّسة؟ هل هي نهائية؟ سرمدية؟ جوهرية؟ أليست قيد التكوين دوماً؟ ... كما ترين يتشظى السؤال أسئلة، والهوية تتشظّى هويات: هل نتحدّث في سورية في هذه الفترة عن هوية عشائرية؟ أم طائفية؟ أم إسلامية؟ يتحدّث الروائي والناقد التونسي شكري المبخوت عن الهويات القلقة، ما قبل الدولة والمدنية، ويصفها بالهويات المدمّرة للذات وللآخر. ألسنا في شيءٍ من ذلك؟ ما الذي رفع العلم الإسرائيلي في السويداء؟ بل ما الذي رفع العلم الدرزي؟ هل هو التوهان الهوياتي؟ وما هذه الجلجلة الأموية المؤبّدة؟ هل هي هوس هوياتي؟ لأصحابه، أدع القول المجرّد في الهوية، وأُقبل عليه في إهابه السوري اليوم، مستذكراً غناءنا الشجي بالفسيفساء السورية. لكن هذه الفسيفساء تصدّعت بعد زلزلة 2011، وبخاصة تحت ضربات النظام الأسدي الساقط، وتحت ضربات العسكرة والأسلمة. وأخشى أن الفسيفساء السورية قد تصدّعت أيضاً بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024)، فازداد التطييف تطييفاً بعد ما جرى في الساحل والسويداء. وهذا التصديع أورث الهوية صدوعاً فصدوعاً. * في مجال السيرة الذاتية، افتتحت القوس بـ"المسلّة" واختتمت بـ"أوشام"، هل استطاعت هذه الأعمال أن تفي تجربتك حقّها؟ وهذا يقود إلى سؤال آخر: إلى أي مدىً يستطيع الأدب أن يعبّر عن تجربة الكاتب في ثرائها وتنوّعها؟ أم يبقى هناك ما لم يقل ولن يقال؟ أرجو ألا تكون "أوشام" خاتمة، ولا إغلاقاً للقوس السيري الذي فتحته "المسلّة"، وتواصل بنسب متفاوتة في عدد من رواياتي، منها "هزائم مبكّرة" و"مجاز العشق" و"في غيابها" و"دلعون" وصولاً إلى "تحوّلات الإنسان الذهبي". ... أما أن تكون "المسلة" مع "أوشام"، بل مع كل ما في رواياتي الأخرى من السيرية، قد أوفت التجربة حقها، فلا أظن ذلك. بل إن "أوشام" ليست إلا بداية المشروع السير الذاتي، كما آمل، وأنا طمّاع جداً في الحياة على الرغم من الثمانين عاماً. ... وفي سائر الأحوال يبقى هناك ما لم يُقل ولن يُقال. * تخلو رواية "مجاز العشق" (1998)، من علامات الترقيم، ما عدا النقطتين المتعامدتين، حيث الرهان على انفتاح القول الروائي. لماذا؟ وكيف يرى نبيل سليمان التجريب في النص الروائي؟ بعد نجيب محفوظ في رواية "اللص والكلاب" أقبل هاني الراهب في "ألف ليلة وليلتان" وصنع الله إبراهيم في "نجمة أغسطس" على لعبة التخلي عن علامات الترقيم في مواقع متفرّقة من روايتهما هاتين، بحيث يأتي المقطع أو تأتي الفقرة متدفقة بلا فاصلة أو نقطة أو أيٍ من علامات الترقيم. ولقد جرّبت ذلك في رواية "دَرَج الليل...دَرَج النهار" عندما صوّرت انهيار سد زيزون، وعصفَ طوفانه بما صادف من قرى ومزارع وبشر وحيوانات ومنشآت... أما في "مجاز العشق" فقد جرّبت لعبةً أخرى، جرياً على "البدعة" التي اجترحها الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو. وأظنّ أن ما فعلته لا يزال وحيداً في الرواية العربية. بالاكتفاء بالنقطتين المتعامدتين من علامات الترقيم أَمِلْتُ شكلاً آخر للتدفق السردي، حيث تُسْلِمُ كل جملة المفتاح لتاليتها. وهنا أستذكر ما حيرني منذ سنوات (بل عقود) من قول جيمس جويس: إذا كنتَ تكتب بشكل سليم، فلستَ مضطراً لأن تضع علامات ترقيم. بل لم يكتف بذلك، إذ أضاف أنه ما من سبب لأن تلطخ الصفحة بعلامات الترقيم. ومثل جويس، قدح برنارد شو، ومثله قدحت غرترود شتاين، بذمة علامات الترقيم، فوصف برنارد شو الفاصلة بالجرثومة غير الحضارية، وحكمت شتاين بأن الترقيم ضروري فقط لضعاف العقول، وأنا منهم.  من ينسى كيف تدفّقت مولي بلوم في رواية جويس "يوليسيس"، عندما سنح لها أخيراً الحديث! ومن ينسى الفصل الذي يرويه المعوّق بنجي في رواية وليم فوكنر "الصخب والعنف"، حيث تكاد تختفي علامات الترقيم. وقد عرض مصطفى عبد الله (مصر) منذ حين ما كتبه وائل فاروق وآخرون عن علامات الترقيم، ومنه أن فكتوريا تورك تتنبّأ بقرب اختفاء النقطة من علامات الترقيم، وقولها ساخرة إن كبار السن والمتوترين وحدهم يضعون نقطة في نهاية كل جملة.  لأقلْ في هذا المقام إنني ممن نشأوا نشأة تقليدية محكمة إن شئت، في ما يتعلق بعلامات الترقيم، من دون أن ننسى أن الأصل في الكتابة العربية انتفاء علامات الترقيم. وعلى أية حال، ما "اقترفتُه" في "مجاز العشق" هو من باب التجريب الذي عوّلت عليه، وسأظل أعّول عليه في كتابتي الروائية. لماذا؟ لأن أيّ تطور في الآداب أو الفنون أو العلوم ما كان ليكون إلا بالتجريب، وإن كان يعتوره كثير مما يعطلّه، ولهذا التعطيل أمثلة فاقعة في الشعر العربي وفي الرواية العربية. كانت للشباب السوري مكابداته مع الوحشية الأسدية أيضاً قبل 2011، ويكفي أن أضرب مثلاً بآلاف الشبان والشابات ممن افترستهم المعتقلات تحت راية رابطة (حزب) العمل الشيوعي أو تحت راية الإخوان المسلمين وغيرهما * ما دمنا في إطار التجريب، يقول رأي إن الأدب في سورية لم يخُض مغامرات كبرى في النوع، والأسلوب، والتجريب. كما أن نصوصاً سورية كثيرة معاصرة تراهن فقط على موضوعها، لا على لغتها أو بنائها الفنّي، ما مدى دقّة هذا الرأي؟ لا يمكن أن يتجاهل المرء التجريبية في الأدب في سورية. هل تذكرون أورخان ميسّر وريادته قصيدة النثر قبل سبعين سنة وأكثر؟ وهل ننسى رياض الصالح الحسين قبل خمسين سنة؟ وماذا اليوم عن رشا عمران ومنذر مصري، وذلك كله في الشعر، أما في الرواية فها هي روايات هاني الراهب منذ "المهزومون" (1916)، وفي القصة القصيرة هي ذي قصص زكريا تامر. في الآن نفسه، ثمّة رهان حقاً على الموضوع في الطوفان الروائي السوري المتعلق بالزلزلة السورية بعد 2011. ولكن ذلك أمر وما توفر في هذا الدفق نفسه، وفي عشرات السنين قبله، من المغامرة الإبداعية في الأسلوب واللغة والبناء، أمر آخر. * وصف جمال باروت بيتك في حلب بأنه كان برلمان الشباب. وذكرت من روّاد ذلك البيت من الكبار حنّا مينة وطيّب تيزيني ومصطفى الحلاج وعلي الجندي وسواهم. ومن الشباب فواز الساجر ورياض الصالح الحسين ونزيه أبو عفش ووفيق خنسة ومحمد كامل الخطيب وغيرهم من الكتاب والفنانين، حيث ساهمت هذه الأسماء في حركة ثقافية غنية في تاريخ سورية. كيف تنظر الآن إلى واقع الشباب بدون مثل هذه اللقاءات؟ وكيف ترى الواقع الثقافي في ظل الميديا ووسائل التواصل؟ كابد الشباب السوري منذ 2011 ما تنوء به الجبال. وإذا كان من هؤلاء الشباب من قاوم الوحشية الأسدية بالصدر العاري، بالسلمية، فمن الشباب من قاوم بالسلاح، ومن الشباب من انضوى في فصائل مسلّحة تتبرقع بالإسلام، ومن انضوى في مليشيات النظام الساقط وحلفائه. وقد كانت للشباب السوري مكابداته مع الوحشية الأسدية أيضاً قبل 2011، ويكفي أن أضرب مثلاً بآلاف الشبان والشابات ممن افترستهم المعتقلات تحت راية رابطة (حزب) العمل الشيوعي أو تحت راية الإخوان المسلمين وغيرهما. ومن ذلك كله وصلنا إلى نوع من العطالة، تُفتقد معها لقاءات كاللقاءات التي يتحدث عنها الصديق جمال باروت في بيتنا في حلب من 1972 إلى 1978. ولا ننسى هنا الشباب الذي نشأ في المنافي بعد 2011، والشباب الذين جرى تهجيرهم بعد 2011. ولا يعني ذلك ألبتّة إعلاءً من لقاءات السبعينيات الشبابية، ولا تهويناً مما بدأ من لقاءات منذ 2011. وليس ذلك بالتالي إلّا إضاءة، لا يغيب عنها أيضاً طوفان الميديا الجديدة ووسائل التواصل، مما جاء بجديده الثقافي، بما خلخل من المتوارث في الواقع الثقافي، سواء أكان المتوارث من عقود الأسدية أم من قبلها. وإذا كنتُ أعارض أي أستذة يمارسها من ليسوا بشباب (وأنا منهم) على الشباب، فإنني أحذّر بخاصة من الذين ينصّبون اليوم أنفسهم أساتذة على الشباب في السياسة أو الرواية أو... وكأنهم ملكوا الحكمة! الطغيان جمعٌ بصيغة المفرد. هو طغيان الحاكم، هو الطغيان السياسي الذي يتمثل في حزب أو رئيس أو أمين عام أو مرشد أعلى * لكل روائي محطات ملهمة في تجربته، إذ إن بعض الأعمال تحقق نقلة على مستوى التجريب أو اللغة أو سواهما. متى شعرت بأنك غامرت بدخول أراض جديدة؟ ما أكثر ما شعرت بأنني أغامر في جديد، ليس فقط على مستوى كتابة الرواية، بل على المستوي الفكري، على مستوى الأسفار... في ما يخص الرواية، حسبي أن أشير إلى تجريب تعدّد الأصوات في رواية "ثلج الصيف" التي صدرت في 1973. وحسبي ان أشير أيضاً إلى الحفر الروائي في التاريخ، مما حاولته رباعية "مدارات الشرق" التي صدر جزءان منها عام 1990 وجزءان عام 1993. ... فكرياً، هل من حدود للتشكل وإعادة التشكل، من الدين إلى الوجودية إلى الماركسية إلى النقدية، وكل أرض تدفعك من جديدها إلى أرض جديدة؟ * في مجال الكتابة، ننظر عادة إلى اللغة "في علاقتها بالحقيقة" بخلاف من يراها تعمية أو وسيلة لتزييف الواقع. وفي أغلب أعمالك تنحاز للشفاهي من القول. إلى أي مدىً تعتبر التاريخ الشفاهي أصدق من المكتوب؟ وكيف تتلافى الفارق بين الحدث الخام والمروي شفاهياً والحدث ذاته لحظة كتابته؟ ربما أكون مفتوناً بالشفاهي، وبخاصة لأن نسبه هو في ما أدعوه "لسان العوام". لكني في الكتابة لا أنحاز له ولا ضده، لا هو ولا غيره، بل أدع المقام الروائي يشكّل الحالة، الحدث، الشخصية، ... كما يرتضي في لحظة كتابته. * يشعر قارئ كتابك "طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد" (2018)، بأن الطغيان أبدي، إذ تقول: كان الطغيان ولم يزل الهواء الذي تنفّسته وأتنفّسه وسأتنفّسه. صيغ ثلاث للماضي والحاضر والقادم، لكنك، في الوقت نفسه، تطالب الإنسان أن يقاوم الطغيان، وتحلم بمجتمع يُلقى فيه في المتاحف. كيف يمكن الحلم بذلك إذا كانت دورة الطغيان أبدية؟ هل هو تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة؟ يعلّمنا التاريخ أن الحلم ممكن دوماً مهما بلغ الطغيان. لذلك أحلم بأن يُلقى به في المزابل، وليس في المتاحف. وإذا كنت قد كتبت أن الطغيان كان ولم يزل الهواء الذي تنفّسته في الماضي، وأتنفّسه في الحاضر، وسأتنفّسه في المستقبل، فليس ذلك لأنه أبدي ومخلّد. بل لأن حياتي قصيرة، وتاريخه أكبر وأطول. أنا حالياً في الثمانين، لذلك قلت إني "سأتنفّسه". الطغيان جمعٌ بصيغة المفرد. هو طغيان الحاكم، هو الطغيان السياسي الذي يتمثل في حزب أو رئيس أو أمين عام أو مرشد أعلى... والطغيان أيضاً هو طغيان المثقف المنافق الذي ترينه ينتقل من معارضة تأييد حاكم إلى تحريم كل معارضة لهذا الحاكم الجديد. ومثل هذا المثّقف الطغياني موجود في سورية اليوم. ولا أنسى الطغيان الاجتماعي مما نعاني، والتحرّر من كل ألوان الطغيان إذن شاقّ وطويل، لكنه حلم البشرية الأكبر. والأمر إذن تفاؤل العقل والإرادة.  * كتب أحدهم "القدر لا يقوم بزيارات إلى المنازل، إنما ينبغي الشروع في البحث عنه ". من الذي بحث عن الآخر: نبيل سليمان أم قدره؟ وهل كان ذلك شاقاً؟ هو ذلك الذي اسمه: القدر، وأنا، كلٌّ منا بحث عن صاحبه. أجل، نحن صاحبان، حتى عندما نختلف. وبَحْثُ كلٍ منا عن الآخر شاقّ؟ نعم، أحياناً. * لو استطعت أن تهمس لذلك الطفل الذي كنته يوماً ماذا ستقول له؟ سأقول له: عزيزي، أنت الذي لا أذكرك إلا في سنتك الثالثة، وربما الرابعة، ما أجمل وما أمتع لقاءاتنا خلال هذا العمر القصير (ثمانون عاماً). لكن اللقاء الذي لا فراق بعده قد اقترب. سأحاول أن أجعل جسدي ينتظرك بلا بهدلة الشيخوخة، ثم سنتعانق العناق المبدع الأبدي، ربما في نطفةٍ بين الصلب والترائب، وربما في زهرة، في كوكب، في إلكترون، والآن هيا بنا إلى الضحك واللعب والخيال. بطاقة  ـ ولد في صافيتا، سورية، عام 1945. ـ تخرّج من كلية الآداب – قسم اللغة العربية – جامعة دمشق عام 1967. ـ تُرجمت أعمال له إلى عدّة لغات منها الروسية، الإسبانية، الإنجليزية، الدنماركية، الفارسية. له 22 رواية منها: ينداح الطوفان (1970) ثلج الصيف (1973) مدارات الشرق (رباعية، 1990–1993).   ـ له أكثر من 20 كتاباً في النقد والفكر، منها:  الأدب والأيديولوجيا في سورية (1974، مع بوعلي ياسين) فتنة السرد والنقد (1994) الإشارة والمعنى (2018) قلق السرد (2024).  ـ نال جوائز أدبية عديدة منها جائزة سلطان بن علي العويس (2021)

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية