
عربي
تُجيد المغنّية ياسمين حمدان إيجاد الشراكات الفنّية المثمرة. من أبكرها تعاونها مع زيد حمدان حين أسّسا معاً، رفقة آخرين، فرقة Soapkills أواخر التسعينيات، التي تُعدّ من أوائل فرق الموسيقى "البديلة" (Indie) الناطقة بالعربية في المنطقة. أعقبتها شراكة مفصلية أخرى مع المنتج الدولي Mirwais، أدّت إلى إنتاج جديد أقرب إلى الجماهير العريضة من نخب الأندرغراوند، دافعة الفنانة نحو بقعة ضوء أوسع وأسطع. بعد سنوات قضتها ياسمين حمدان في ميادين التجريب، ثم انقطاع دام سنوات، تعود اليوم من بوابة الإندي بعد أن غدا تياراً شبه سائد، وكالأمس، بشراكة جديدة مع المخرج إيليا سليمان، فتطرح ألبوماً يستجيب لروح العصر، إذ يجمع وسيطي التعبير السمعي والبصري عبر الأورينتال تكنو وفن الفيديو، ويدمج الصوت والصورة بخطاب نشاطوي عالي التركيز، يربط الذاتي بالكوني، والتركة اللبنانية بالهويّات السياسية العابرة للحدود، كالنسوية ونزع الكولونيالية ومناهضة الحروب.
تبرز الأغنية المصوّرة الحاملة لعنوان الألبوم "بنسى وبتذكّر" ثمرةً يانعةً للشراكة الجديدة. من خلال مشاهدتها والاستماع إليها، يمكن رصد التركيب المفاهيمي متعدّد الطبقات، المؤلّف من موسيقى هجينة من أجناس وثقافات متعددة، وفيديو فنّي يجمع بين تحريك الصور (Animation) ولصقها (Collage)، مع توحيد الوسائط والعناصر ضمن ثيمة متّسقة، تنطلق من الذاتي إلى الموضوعي، مستلهمة من ذاكرة ياسمين حمدان المتأثرة بالحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) وتداعياتها العميقة. يصنع نبض الإيقاع الإلكتروني ظلّاً محليّاً يظهر على شكل جنس "كراتشي" الشرقي، يصاحبه أكف الزفّة، ويُضاف إليه نمط نغمي متكرر (Riffs) على الغيتار الكهربائي يُؤدّى بصورة ارتدادية تحفّز على الرقص. يذكّر الإطار العام لموسيقى التكنو، والتسخين الصوتي المتواصل الناتج عن تداخل مزيد من الآلات والإيقاعات حتى الإشباع، بأغنية Makeba للفرنسية جين التي حققت نجاحاً فيروسياً قبل ثماني سنوات.
يُطابق الطابع الحماسي للموسيقى ديناميكية الفيديو كليب الذي أخرجته ياسمين حمدان بالتعاون مع إيليا سليمان، المصوّر على هيئة رسوم متحركة (Animation)، تجسّد الفنانة في شخصية ألعاب الفيديو على نحو استعادي (retro) يحاكي تصميمات تسعينيات القرن الماضي. تستوقف الدفق الراقص موجةٌ من الوتريات المعالجة إلكترونياً، تتذيّلها تهليلة "أويها" المعروفة في الأعراس، عند إحداثية درامية تظهر اعتراض البطلة أثناء جريها من ثلّة من الجنود المسلّحين، بأزياء متعددة وعتاد متمايز، بما يوحي أنهم مليشيويون وليسوا قوة نظامية. ينقل إفلات البطلة من الخطر الحبكة إلى المشهد الثاني، إذ تتغيّر الخلفية، كما في ألعاب الفيديو، لتصوّر أجواء استجمام مدينية، في إشارة إلى إحرازها نقطة في وجه الخوف وخروجها من رعب الحرب، موحية بتناقضات الحياة في بيروت.
تعمد حمدان عند الثانية (0:43) إلى نطق اسم التراك والألبوم "بنسى وبتذكّر" على شكل اعتراض صوتي (Spoken Interjection)، مُوقفة الموسيقى لحظة قصيرة قبل انطلاقها من جديد في ما يُعرف بـDrop، وهي تقنية شائعة لدى لاعبي الأقراص (DJ) في موسيقى التكنو، لإحداث استثارة حسية وتحفيز على متابعة الرقص. بالتوازي، يُعرض العنوان بصرياً على قطار يخترق المدينة، مُضيء بهالة أرجوانية تجمع بين لون المغيب ولهيب الحرائق، في تباين بين رومانسية الحاضرة الشاطئية وكابوس العنف.
يتّبع الفيديو كليب أسلوب العدسة الثابتة التي تلتقط دوامة من الصور، لتصوير استدعاء واستبعاد الذاكرة المرضوضة، من دون إيقاف الموسيقى أو ترنيم، وتطلق الفنانة عند الدقيقة (1:05) حكماً أخلاقياً: "دوده من عوده"، مستحضرة مثلاً شعبياً يُشير إلى أن مصدر الأذى يكمن في الذات. يلي ذلك جسر موسيقي من آلة العود ذات اللون المغاربي، لتنتقل الأغنية إلى مقطع جديد، أكثر كثافة توزيعياً، مع ارتجالات من أورغ السنثسايزر والغيتار الكهربائي.
المضمون يتجاوز المحليّة اللبنانية إلى انشغالات سياسية عالمية، متجذرة في خطاب اليسار اللبناني منذ الاقتتال الأهلي، والتي تركت أثرها على مضامين الموسيقى البديلة، متجسدة في تجربة الراحل زياد الرحباني ونصوص عمر الزعني الذي أطلقت حمدان عليه لقب "شيخ إمام لبنان". تتجلّى كونية الانشغال السياسي من خلال الكرة الأرضية الملتهبة التي تلاحق الذات الكرتونية، في جري على طريقة "سوبر ماريو"، في إشارة إلى الحروب والنزاعات المستمرة حول العالم، كما يظهر الجدار الشبيه بجدار الفصل الذي بنته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي تُعرض عليه سلسلة من الغرافيتي تجمع بين اللبناني والعالمي، لتسليط الضوء على المفقودين والنضال ضد الاستعمار والاستغلال واستعباد الشعوب، ورصد تبعات ذلك من فقر وجوع ولجوء.
لا يسعى ألبوم "بنسى وبتذكر" إلى إفلات الذات من دوامة التروما، لكنّه يحمل رغبة علاجية ضمن طبقات الصوت والصورة، تقوم على قبول الماضي والتصالح معه، مع الاعتراف بالعجز عن إنقاذ العالم، متجسدة في الأداء الغنائي الخدِر، خصوصاً في الختام، والتطبيع بوح غير ملحّن مع قتامة الزمن الحاضر (دقيقة 04:09): "القتل عادي، الكذب عادي، الفشل عادي …"، فيما تتضاد نبرة اليأس مع صور خاطفة مشبعة بالنور، يقف في طريقها فيض الظلال كسحب داكنة حُبلى بالمطر.

أخبار ذات صلة.

غوغل توقف مشروع حماية الخصوصية في الإعلانات
العربي الجديد
منذ 13 دقيقة