
عربي
رغم أنها عادة تراثية قديمة، أخذت نقوش الحناء تنتشر بين الفتيات العراقيات، خصوصاً أنها علاج نافع للجلد، وتمكن إزالتها بسهولة بخلاف النقوش بالألوان الصناعية والليزر. وتشهد الأعراس والمناسبات الحضور الأكبر للحناء، إذ تزين الفتيات أيديهن وأقدامهن بنقوش مختلفة.
وحتى عقود قريبة، كانت الحناء من أبرز سمات تجمّل النساء في العراق، بخاصة في الأرياف، ثم تراجعت كثيراً لاحقاً، لكنها حافظت على صفتها العلاجية، سواء للرأس أو لأمراض الجلد. وعادت حالياً إلى الظهور في شكل مميز.
تقول فردوس حسن التي تدير صالون تجميل للسيدات في بغداد لـ"العربي الجديد": "أعتبر نفسي محظوظة بالعمل في مهنة ترتبط بالفن والتراث اللذين أحبهما، خصوصاً أنني تخرجت من معهد الفنون الجميلة، وتخصصت في الرسم. لاحظت خلال السنوات الأخيرة إقبالاً متزايداً من الشابات على الحناء، ليس فقط من أجل حفل زفاف، بل أيضاً للمشاركة في مناسبات صغيرة، مثل أعياد الميلاد أو الحفلات الجامعية".
وعن أنواع النقوش التي ترغبها النساء والفتيات، تلفت فردوس إلى أن "كثيرات يطلبن نقوشاً رفيعة على الأصابع، أو خطوطاً خفيفة حول المعصم، بينما تفضل أخريات رسوماً تغطي اليد أو القدم. تطلب بعض الفتيات تصاميم مستوحاة من نقوش عراقية، مثل النخلة أو الزخارف الشعبية، وأخريات نقوشاً خليجية تشتهر بأن تنفيذها دقيق، وتتضمن تموجات كثيرة، وقد تجلب نساء وفتيات صوراً من الإنترنت لتصاميم أوروبية، أو حتى لأشكال هندسية حديثة. أبتكر في بعض الأحيان تصاميم خاصة للزبائن، وتلقى أصداءً جيدة، ما يفرحني كثيراً، خصوصاً أنني أصر على أن التنوع أعاد الحياة للحناء وجعلها أكثر جاذبية للشابات".
وحتى وقت قريب، لم تكن البيوت العراقية تخلو من مادة الحناء التي تعشقها النساء باعتبارها جزءاً من زينتهن، ولا يتطلب إعداد الحناء خبرة كبيرة، إذ كانت الأمهات والجدات يخلطن الحناء ويصنعن عجينتها، ويضعنها في أكف أيديهن وباطن أرجلهن، فيما تزين نقوش بسيطة أيدي الفتيات الصغيرات والشابات وأقدامهن، بخاصة في المناسبات مثل الأعراس والأعياد.
ومع مرور الزمن، خف بريق هذه العادة حتى اعتقد البعض أنها في طريقها إلى الاندثار، ولم تعد سوى تراث يمثل حقبة من زمن مضى. لكن السنوات الأخيرة أثبتت عكس ذلك، إذ عادت الحناء لتطل مجدداً بين أصابع الشابات بلمسات حديثة تعكس مزيجاً من التراث والموضة.
تروي الطالبة الجامعية شيماء علي (21 سنة) تجربتها مع نقوش الحناء قائلة لـ"العربي الجديد": "لم أكن من محبي الحناء في البداية، إذ كنت أعتبرها تقليدية جداً، ثم وضعت رسماً خفيفاً على أصابعي في إحدى حفلات صديقاتي، وأدهشني كم كان هذا الرسم أنيقاً وبسيطاً. وأعجبتني الفكرة أكثر حين اكتشفت أن الحناء تزول بعد أيام قليلة من وضعها ما يتيح لي تغيّير الرسوم باستمرار من دون التزام طويل. الحناء بالنسبة لي إكسسوار متجدد أضعه وأزيله بحسب المناسبة".
وتقول لمياء خضر (34 سنة)، وهي موظفة في دائرة حكومية وأم لطفلين، لـ"العربي الجديد": "عدت إلى وضع الحناء بدافع الحنين إلى أيام طفولتي حين كنت أرى أمي وجدتي ونساء الحي الذي أسكنه لا يتركن مناسبة إلا ويضعن الحناء على أيديهن، وكان ذلك مشهداً دافئاً يربط بالبيت والعرس والجيرة. حين وضعت الحناء أخيراً شعرت باستعادة بعض من هذا الدفء، لكن الفرق أن النقوش اليوم أصبحت أكثر عصرية وتناسقاً مع الأزياء الحديثة. شخصياً أحب أن أمزج النقش مع لون أظفاري أو مع خاتم معين ليصبح جزءاً من إطلالتي".
بدورها، تقول زينب هاشم (46 سنة)، وهي ربة منزل، لـ"العربي الجديد": "كنت أظن أن الحناء لم تعد تليق إلا بالكبار في السن، لكنني فوجئت بأن بناتي يطلبنها باستمرار. أصغر بناتي الثلاث، التي تبلغ 16 سنة، تحب أن تضع نقشاً صغيراً على معصمها، وتعتبره أكثر جمالاً من أي وشم أو ليزر. أما بالنسبة لي، فالحناء تعطي لمسة جمالية لا تحتاج إلى جهد أو تكلفة كبيرة، والأجمل أنها مؤقتة، ففي كل مناسبة يمكن أن أجرب شكلاً جديداً، وهذا ما يجعلها ممتعة".
من جهته، يرى الباحث في التراث العراقي عمر محمود أن عودة الاهتمام بالحناء ليست مجرد نزعة جمالية، بل إحياء لذاكرة اجتماعية. ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت الحناء تمثل قيمة مهمة في التراث الشعبي العراقي، وتعد جزءاً أساسياً من طقوس الزواج والفرح. وأكثر طقس لا يزال يحتفظ بأهمية الحناء هو ليلة الحنة، وهو مساء اليوم الذي يسبق يوم الزفاف حين تقام ليلة حنة منفصلة لكل من العريس والعروس بمشاركة الأهل والأحباب، وتوضع الحناء في أيدي العروسين، ويضع أصدقاء العروسين وأقاربهما الحناء في كفوف أيديهم، في إشارة إلى الفرح الجماعي".
وتشكل ليلة الحناء في العراق جزءاً من الثقافة المنتشرة في البلاد العربية، وتجتمع خلال هذه الليلة صديقات العروس وقريباتها من أجل الاحتفال، ولا توجد طقوس مميزة لهذه الليلة في العراق، إذ إن النساء يقمن خلالها بالرقص والغناء، وتُبدّل العروس ملابسها مرات عدة كي تطل بفساتين مختلفة، وتقوم جدتا العروس، أم أبيها وأم والدتها، بتحنية يدي العروس، أو تقوم خالاتها بهذه المهمة، كما يتم في هذه الليلة تقديم الطعام للضيوف إضافة إلى الحلوى.
ويتطرق محمود إلى القيمة العلاجية للحناء في التراث الشعبي العراقي، "إذ كانت تستخدم قديماً في تسكين آلام المفاصل، والعناية بالشعر، وحماية الجلد من الالتهابات، ما جعلها محببة لدى العراقيين وقريبة منهم. وعودة الشابات إلى الحناء تعكس عطشاً للارتباط بالهوية المحلية وسط زخم صراع الحداثة في العالم". ويعتبر أن "نقوش الحناء ليست مجرد رسومات عابرة، بل جزء من الفلكلور العراقي، وإعادة إحيائها بطرق حديثة يضمن استمرارها باعتبارها جزءاً من هوية العراق الجمالية الذي يجب الحفاظ عليه على غرار الموروث الغنائي أو الأزياء الشعبية".
