
عربي
"الله يسامحك يا حنين"... هذا أوّل ما خطر في بالي، ورغبت في قوله للصديقة الشاعرة والروائية اللبنانية، حنين الصايغ، حال انتهائي من قراءة روايتها الثانية "ثمرة النار" (دار الآداب، بيروت، 2025) وكنتُ بعد لم أتخفّف تماماً من أوجاع (وأحزان) نسائها المعذّبات في روايتها الأولى "ميثاق النساء" (دار الآداب، 2023) التي وصلت إلى القائمة القصيرة في سباق الجائزة العالمية للرواية العربية (2025). وقد أفردت حنين فضاء النص آنذاك لحكاية أمل، البنت الهادئة الخجولة ذات الإرادة الصلبة، المسكونة بالأسئلة الصعبة، التي تنتمي إلى عائلة محافظة من الطائفة الدرزية في لبنان، تمكّنت من تحقيق نفسها أكاديمياً ومهنياً وإنسانياً بفضل عنادها وطموحها وقدرتها الاستثنائية في المواجهة والتحدّي والتمرّد على ثوابت العائلة والطائفة وقيودهما، وعلى اشتراطات الواقع الاجتماعي، ومن انتزاع حقّها رغماً عن الجميع في الحبّ والحياة والكرامة.
وفي "ميثاق النساء" لم تنفصل حكاية الشخصية المركزية (أمل) عن باقي الشخصيات النسوية، بل شكّلن معاً خيوط الحكاية الكبرى عن معاناة النساء المقموعات المصادرة حقوقهن في المجتمعات المغلقة، التي تجور عليهن وتحبس أنفاسهن. واصلت حنين في "ثمرة النار" توهّجها الروائي من حيث اللغة المكثّفة التي لم تخلُ من شعرية، ومن حيث تماسك السرد وتدفّقه الجارف وقوة تأثيره ومدى تشويقه، غير أنها بدت أقلّ تحفّظاً وأكثر تصالحاً مع شخصياتها، فأطلقت العنان لبوحهنّ المنفلت، فعبّرن عن ذواتهن من دون خوفٍ أو حذر، كما منحتهن مساحات أوسع على مدى النصّ لسرد حكاياتهن ورصد أحزانهن، وأحلامهن وآمالهن وإحباطاتهن. نساء عاديات، يشبهن النساء العربيات كلّهن، قريبات ومألوفات، وشقيقات وجدّات وخالات وجارات وصديقات.
وإن أضاءت الروائية شخصية الأمّ في مفاصل عديدة من "ميثاق النساء"، فإنها في "ثمرة النار" أفسحت المجال بالكامل لشخصية الأمّ، نبيلة، نقطة الارتكاز في الرواية، المرأة الصلبة رغم نكد الدنيا الدائم على روحها الحرّة النزيهة، عزيزة النفس الرافضة الظلم، صانعة الخبز، المعيلة أسرتها، المرأة الحزينة الطيّبة المعطاءة الحنونة، المظلومة تاريخياً والمصادرة حقوقها في تلك البيئة الذكورية المتشدّدة. من هنا جاءت "جملتي الله يسامحك يا حنين"، ذلك أنني لم أتمالك دموعي وأنا أتتبّع عذابات تلك القدّيسة متجسّدة في مشاهد متلاحقة من ضيعة لبنانية جبلية نائية، في بيتٍ عتيقٍ تزيّنه أصص النباتات. ومن أمام فرن بلدي تقرفص أمامه المرأة الستّينية المتعبة، انهالت فصول حكاية نبيلة، التي احترق قلبها على فقدان شقيقتها المقرّبة وإحدى بناتها، وظلّت مشغولة بهموم صغيرتها المتمرّدة "أمل"، وقد وهبت كل الدفء والحنان الممكن لحفيدتها، غير أن السنين هدّتها، وهدرت طاقتها مع زوج هو ابن بيئته القاسية الجافّة البخيلة عاطفياً، التي تعدّ التعبير عن المشاعر ضعفاً ورخاوة وقلّة هيبة.
كانت الأمّ بنتاً درزية جميلة لم تنل حظّها الكافي من التعليم، غير أنها تميّزت بين أقرانها بالذكاء المُتّقد والحساسية العالية. عاشت بين ضيعتَين متجاورتَين، وعانت من اضطهاد العائلة التي تفضّل إنجاب الذكور، وتعتبر البنت خادمة في بيت العائلة، قبل أن تنتقل إلى الخدمة في بيت زوجها. امتثلت نبيلة لمنظومة جائرة من العادات والتقاليد الصارمة التي أدّت بها إلى وأد حكاية حبّ يانعة في مهدها مع شابّ من غير الطائفة، قد يؤدّي الارتباط به إلى هدر دمها، وجلب العار لعائلتها، واستسلمت إلى زواجٍ متعسّفٍ نال رضا الجماعة المساقة من السلطة الدينية. عاشت نبيلة ظروف الفقر، وشظف العيش والحرمان، ولازمها إحساسٌ بتأنيب الضمير، لأنها رغم كفاحها وقوة عزيمتها وصبرها لم تتمكّن من توفير حياة أقل قسوة لبناتها الأربع، اللواتي اختلفت شخصياتهن ومصائرهن، وجمعتهن مظلّة "نبيلة"، أمّهن التي رحلت عن الدنيا بعزّة وأنفة، رافضة الخضوع لعلاج كيميائي قد يمدّها ببضعة سنوات إضافية.
وقد أضاءت الرواية جوانب كثيرة ومثيرة من ملامح المجتمع الدرزي، من حيث المعتقدات والعادات، واحتفت بالأمومة باعتبارها العلاقة الأكثر تركيباً، لأنها تحوي مشاعر متناقضة يصعب إدراكها أحياناً... "ثمرة النار" نصّ حارق أخّاذ، ضاجٌّ بالجماليات، وكفيل بتحريك المواجع كلّها. وعلى ذلك تحديداً: "الله يسامحك يا حنين".

أخبار ذات صلة.

تحدّيات لا بد من مواجهتها
العربي الجديد
منذ 26 دقيقة

اللاتواصل في زمن التواصل
العربي الجديد
منذ 27 دقيقة

أيام الجوع العالمية في غزّة والسودان
العربي الجديد
منذ 27 دقيقة